قبل الإسلام، كانت الكهانة ضاربة فى الأعماق إلى ألوف السنين. تراها فى العقائد البدائية الأولى، وتراها فى العقائد المتطورة، وتراها لدى قدماء المصريين، ولدى غيرهم من القدماء فى الهند وفارس، وهى قائمة فى الأديان الكتابية التى سبقت الإسلام.
لم تكن هذه الكهانة مجرد علم كالعلم الذى يحصّله العلماء نتاج العكوف والدراسات والبحوث، وإنما سلطة تستولد لنفسها المكانة والنفوذ بزعم تعبيرها عن القوى العليا وصولاً إلى الله عز وجل، حيث تزعم الكهانة لنفسها أنها همزة الوصل التى لا غناء عنها لاتصال المخلوق بالسماء.
ولك أن تعرف أن رفض الإسلام لكل صور الكهانة، مبدأ متفق عليه «بالإجماع» بين كافة العلماء القدامى والمحدثين، ومتفق عليه بين أجيال الأزهر الشريف، الذى هو منارة علم ومعرفة، وليس سلطة دينية، فإن شذَّ أحدٌ فإنما يرجع شذوذه إليه، وأنه يشذ بذلك عن «قاعدة» راسخة مجمع عليها، أنه لا سلطة دينية فى الإسلام!
وجذور هذا المبدأ المتفق عليه بإجماع، ترجع إلى الأسس التى قام عليها الإسلام، فى العقيدة الإلهية، وفى عقيدة النبوة، وفى مقومات الإسلام ذاته.
فى العقائد البدائية اختلطت الكهانة بالسحر، وكلاهما قائم على الكذب والاختراع، وظل هذا لآماد طويلة حتى ترقّت عقائد الإنسان، أولاً إلى الحد الذى ميّز فيه بين الإله وبين الشيطان، وبين الخير والشر، وإن بقيت رواسب الكهانة قائمة فى الديانات غير السماوية، ومنها تسربت إليها.
إلا الإسلام، فإن بنيته وعقائده ومبادئه، ترفض هذه الكهانة وتأباها.
رفض الإسلام كل سلطة تصادر عقل الإنسان وحريته فى الاعتقاد. رفض سلطان الآباء والأجداد.. «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ» (المائدة 104).
«أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ» (البقرة 170).
ورفض سلطان العرف السائد إذا كان يخالف العقل والدين.
فريضة التفكير ترفض الجمود والعنت والضلال وترفض الكهانة وتأباها.
لم يجئ التنويه بالعقل عرَضاً فى القرآن الحكيم، إنما هو نسق يستلزمه لباب الدين وجوهره.
لا وساطة بين العبد وربه.
ولا وساطة فيه لسدنة أو أحبار بين المخلوق والخالق.
ولا قربان فيه يقدم فى المحاريب والهياكل.
ولا مكان لأى وساطة عن طريق الكهان.
يتجه خطاب الإسلام إلى عقل الإنسان حراً طليقاً بلا وصاية عليه ولا سلطان لهياكل أو محاريب أو وساطة باسم الإله.
يقول تعالى: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (البقرة 115).
وحيث لا هيكل، فإنه لا كهانة!
وإنما يتجه خطاب الدين إلى الإنسان العاقل الحر الطليق من كل سلطان يحول بينه وبين الاتجاه إلى ربه أو يقعده عن الفهم القويم والتفكير السليم..
ففى الإسلام.. «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ» (الإسراء 13).
و«كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ» (الطور21).
وأنه «لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الأنعام 164).
وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، ويكون الدين الذى تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير وساطة ولا محاباة، ويحاسَب فيه الإنسان بعمله لا بعمل سواه، وحسبما يهديه إليه عقله المطلوب منه أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد.
العلم والهداية لا الكهانة
لا يرتفع الإنسان بشىء فى شريعة القرآن كما يرتفع بفضيلة العلم، ولا يسأل المؤمن ربه نعمةً أقوم وألزم من نعمة العلم.
«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» (المجادلة 11).
«قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ» (الزمر 9).
«وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً» (طه 114).
«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (فاطر 28).
فضيلة الإسلام الكبرى، أنه مع احترامه وتقديمه للعقل، فتح للمسلمين أبواب المعرفة لا السحر والكهانة، وحضّ المسلمين على ولوج ميادين العلم والسعى إليها والتقدم فيها.
القراءة أول ما نزل به الأمر الإلهى فى القرآن «اقْرَأْ»، وأقسم القرآن بالقلم وما يسطرون «ن. وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ».
النبوة قوامها الهداية للعقل والضمير، بالعلم والحكمة والموعظة الحسنة، لا بالسحر ولا بالكهانة والاستطلاع والتنجيم، ولا هى نبوة لقراءة الغيب، فلا يعلمه إلاَّ الله. غاية الرسالة الهداية والتعليم. قال تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ». (البقرة 151).. وفى سورة الجمعة: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ» (الجمعة 2).
وليست النبوة ضرباً من ضروب الكهانة، ولا النبى كاهناً يتعاطى الكهانة ويلقيها إلى الناس: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ» (الحاقة 40، 41، 42).. «فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» (الطور 29).
وليست النبوة ضرباً من الجذب أو الجنون المقدس.. «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم 1: 4).
عن هذه النبوة يورد القرآن المجيد فى سورة الحاقة: «إِنََّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَما هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (الحاقة 40: 52).
عقيدة النبوة فى القرآن المجيد هى بهذا الصفاء والوضوح، لا تختلط بشعر ولا بسحر ولا باستطلاع ولا بتنجيم ولا بكهانة ولا بعرافة.. هى تبليغ عن الله تعالى الخالق الواجد الماجد، لا يدّعى رسول القرآن العلم بالغيب أو الإخبار بآتيات الأيـام.. يقـول للناس من قول ربه: «وَعِندهُ مَفَاتِـحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ» (الأنعام 59).. ويتلو عليهم قوله عز وجل: «وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» (يونس 20).. ويقول لهم: «قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ» (الأنعام 50).
حامل الرسالة بشر رسول، أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وأهّله بأدبه هذا العظيم لحمل رسالة الإسلام إلى الناس كافة.. هادياً، وبشيراً، ونذيراً..
• «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (النحل 44).
• «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً» (الأحزاب 45، 46).
النبوة نبوة تبليغ وهداية، التأمت مع العقيدة الإلهية التى لا وساطة فيها بين العبد وربه.