منتصر ثابت يكتب: التاريخ يبدأ من الفيوم
منتصر ثابت
منذ أكثر من أربعين مليون سنة ترك التاريخ صخوره الجيولوجية وحفائر حيتانه الضخمة فى محمية وادى الحيتان بالفيوم لتتحدث عن هذا التاريخ الطويل حين كان البحر يغطى بمياهه وكائناته البحرية هذه الواحة الجميلة.
ومن المفارقة أن الفيوم التى تُتهم اليوم بأنها حاضنة للفكر المتطرف كانت هى الحاضنة للثقافة والفكر والفن منذ بدايات التاريخ. من إقليم الفيوم ظهر أول أدب سياسى عرفه العالم، وهو شكاوى الفلاح الفصيح، هذه القصة التى تعود إلى الأسرة العاشرة فى عصر الدولة الفرعونية الوسطى.. هذا الفلاح الذى خرج من قرية وادى الملح إقليم الفيوم ليبيع بضاعته، لكنها سرقت مع حميره من مسئول كبير بالدولة، فبعث شكواه إلى أمير المقاطعة يستعرض فيها العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
يقول فيها للأمير «أنت الدفة فلا تنحرف، وانت الميزان فلا تميل. كن عادلاً فيسود السلام فى البلاد». ثم يحكى الفلاح فى شكوى أخرى: «كيف وضع الأمير قلبه مع السارقين، وهو المنوط به أن يحمى البلاد من الفاسدين، وكيف يقوم رجاله بسلب الناس حقوقهم وأموالهم، بدلاً من أن يكون أباً لليتيم وزوجاً للأرملة ومدافعاً عمن لا مدافع له». وتحكى القصة عن سعة صدر الفرعون لكل ما كتبه الفلاح فى شكاواه التسع، وكيف رد له حميره وبضاعته وعوّضه عن الظلم الذى تعرض له، من الفيوم كان أول أدب عرفه العالم فى الحنين إلى الوطن أو «النوستالجيا». إنها قصة سنوحى أو سنوهيت. هذه القصة التى علمها المصريون لأولادهم وكتبوها على ألواحهم وعلموها فى مدارسهم. إنها تحكى عن القائد سنوحى الذى هرب إلى بلاد الشام بعد موت الفرعون إمنمحات، وتولى ابنه سنوسرت أمور المملكة. بالمناسبة.. مسلة سنوسرت الموجودة بمدخل الفيوم تُعتبر أول وأقدم مسلة فرعونية، حيث كانت الفيوم عاصمة البلاد فى ذلك الوقت، وللأسف لا نهتم بها ولا نقدم تاريخها.
لم تكن الفيوم حاضنة للثقافة فقط، بل للفن أيضاً، ووجوه الفيوم التى تعتبر أول فن للبورتريه فى العالم، والتصوير الشخصى بدأ رحلته من الفيوم، حيث رسم الفنان الفيومى، وجوه الناس أثناء حياتهم بصور زيتية وشمعية لتوضع معهم فى توابيتهم عند الموت. هذه الصور موجودة فى معظم متاحف العالم ومعروفة باسم وجوه الفيوم، هذه هى الفيوم حاضنة الثقافة والفنون منذ فجر التاريخ.. موطن الحضارة، وأرض الفكر، واختلاف الرأى دون مصادرة أو تحريم. للأسف، إن ثلاثين عاماً أو يزيد من الفكر المغلوط، والمتطرف والجماعات الظلامية، وانحدار التعليم، وغياب الدولة عن دورها، وترك هذا الدور لتلك الجماعات فى كل ما يخص المواطن من فكر وتعليم وصحة وتكافل وطعام، وغيره جعل من كل محافظات مصر وليس الفيوم وحدها حواضن للإرهاب.