قابلت صديقين قام أحدهما بتأليف كتاب عن تاريخ قريتنا لكنه قرر عدم نشره خوفاً من ردود الفعل السلبية، وكتب الثانى كتاباً عن أعلام القرية ورموزها لكنه تأخر فى نشر كتابه لأنه كلما همّ بالنشر أراد أن يضيف جديداً، وما بين الخوف من رد الفعل وبين حب الاستقصاء تضيع الأعمال العلمية المفيدة، ولذلك قالوا: «حب الاستقصاء شؤم»، فما من عمل يقوم به إنسان إلا بعد فترة يرى أنه كان ينبغى أن يضيف هنا، ويحذف هنا، ويختصر هنا، وهكذا، لذلك فكل من يتقن العمل ويكمله ويبذل قصارى جهده فيه فعليه أن يخرجه للناس، ثم له فى الطبعات التالية أن يضيف ويحذف كما شاء. وقد احتذى هذا المنهج «خير الدين الزركلى» فى كتابه المشهور «الأعلام»، فلم ينتظر حتى يترجم لكل من يريد، بل إنه أخرج الموجود مما بين يديه فى الطبعة الأولى، ثم استمر يضيف ويضيف، حتى إن الفرق الزمنى بين الطبعة الأولى والثالثة 44 سنة، فالطبعة الأولى كانت سنة 1345هـ، والثالثة كانت سنة 1389هـ، فانظر حجم الفرق الشاسع بين الطبعتين، وأنه لم ينتظر 44 سنة حتى يخرج طبعة مكتملة. فى هذا المضمار نذكر الدكتور منصور فهمى عالم، الفلسفة الكبير، وصاحب الجولات الفكرية متجاوبة الأصداء، إذ نشر فى الهلال والمصور والأهرام وغيرها من كبريات المجلات والصحف الرصينة مقالات وبحوثاً امتلأت بالصائب السديد، ولم يتم جمعها، ولما سأله أحد تلامذته عن السبب وراء عدم جمعها!! قال: إننى بعد أن أنشر المقال أجد فيه كثيراً من نواحى النقص، فأشيح عنه، وقد قمتُ بنشر بعض الخوالج النفسية التى ظهرت فى جريدة الأهرام فى العشرينات والثلاثينات تحت عنوان «خواطر نفس»، فصادفت ارتياح الناقدين، وتلقيت عنها عشرات الرسائل المشجعة، لكن حين أعاود قراءتها أجد بها من الخلل ما يجعلنى أعتقد أننى تسرعت فى نشرها»، وتسبب هذا الخوف فى ضياع علم كثير.
أما الدكتور حامد ربيع، وهو إمام فى مجال العلوم السياسية، فله مقالات غير منشورة، وبسبب تأخره فى جمعها ضاعت فى نزاع بين ورثته بعد وفاته، وخسرت بذلك المكتبة العربية أعمالاً مهمة، ولم يقم أحد بنشر بعض كتبه التى بقيت على هيئة مذكرات مكتوبة على الآلة الكاتبة. حدث ذلك أيضاً مع الباحث الكبير والمفكر العميق الدكتور محمد السيد سعيد، الذى احتل موقعاً بارزاً فى الفكر والحركة العربية، فقد عرض عليه الكاتب المعروف الدكتور عمار على حسن أن يجمع مقالاته الفكرية العميقة والمنشورة فى صحف ومجلات عديدة مثل «رواق عربى»، و«أحوال مصرية»، و«السياسة الدولية» و«شئون عربية» لتخرج فى كتاب يحفظ تراثه وميراثه الفكرى، لكن المنية وافت الدكتور محمد، ولم تتم الفكرة إثر نزاع شب بين ورثته.
أيضاً فإن توفيق الحكيم له بعض الأعمال التى لم تظهر، وقد جمعها الأستاذ إبراهيم عبدالعزيز، لكنه اصطدم بدار الشروق التى وقعت عقداً مع ورثة «الحكيم» تمنع غيرها من نشر تراثه.
والحاصل أن كل واحد عليه أن يجمع من كتاباته ما يراه صالحاً للنشر بأن يختار الجيد الصائب ذا الكمال قدر استطاعته، وإن تبدى له حذف أو إضافة فليفعل ذلك فى الطبعات التالية، بدلاً من أن يموت العلم تحت داعى الخوف من رد الفعل أو حب الاستقصاء.