فى القرآن الكريم أن الله سبحانه هو المثل الأعلى. «وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (النحل 60).. سبحانه «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ» (الشورى 11).
يعلم ما لا يعلمه الإنسان، ولا يحيط أحد بعلمه إلاَّ بما شاء. سبحانه «اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَى الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُ الْعَظِيمُ» (البقرة 255).
لا تتعلق قدرته إلاَّ بمشيئته سبحانه، أمره عز وجل إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.. «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (البقرة 117)، «قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (آل عمران 47)، «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (النحل 40)، «سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ» (مريم 35)، هو سبحانه عالم الغيب والشهادة، ما يغرب عنه مثقال ذرة فى السماء والأرض، وسع سبحانه كل شىء علماً، وهو بكل شىء عليم، وهو الذى يحيى ويميت، وكل شىء هالك إلاَّ وجهه، «وَهُوَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيتُ» (المؤمنون 80)، «ولاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (القصص 88)، «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ» (الرحمن 26، 27)، ولا واسطة بين الإنسان وربه، لا يتوسط إليه سدنة أو كهنة أو أحبار، هو سبحانه أينما يولى الإنسان وجهه، وهو إليه أقرب من حبل الوريد، «وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (البقرة 115)، «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» (ق 16).
لا موضع فى الإسلام للكهنة والكهانة، ولا سبيل إلاَّ بالعلم والعلماء
ويحسب للإسلام أنه ميز وفصل بين الكهانة والكهان والكهنوت، وبين العلم والعلماء الذين يستمدون المعرفة ويحصلون العلم من العكوف الطويل والتمعّن والتفكير والدراسة والتدقيق والموازنة، حذر الإسلام من الكهانة ونهى عنها بكل صورها، ومن أى استبداد بعقل وخيار المخلوق بزعم الاستئثار بالسلطة الإلهية ومعرفة مفاتيحها وسبل الاقتراب منها والوصول إليها، وبَيَّنَ العلماء الذين يحرزون العلم ويلمّون بأحكامه وقواعده، ولكنه لم يفرضهم بأى سلطة على الناس، وترك الخيار المطلق إلى الناس إذا عَزَّت عليهم معرفة شىء أن يلجأوا إليهم أو لا يلجأون، هذا الخيار واضحٌ فى قوله تعالى: «فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»، فسؤال أهل العلم معلق على أن يعجز المكلف عن إدراك علمٍ ما، وتعوزه معرفته، بيد أن ذلك ليس وحده سبيلاً لفرض الرجوع إلى أهل العلم عليه، فالاختيار المطلق إليه: أن يسأل أو لا يسأل، وفارق واضح جداً بين هذا، وبين السلطة الدينية المتساندة للكهانة، فالكهانة سلطة تفرض نفسها، والعلم معرفة تتاح لمن يشاء ويسعى إليه مختاراً مريداً.
لا محل فى الإسلام لعبادة الأسلاف
كانت أزمة الإنسان فى اتباع عبادة الأسلاف بلا بحث ولا نظر ولا مراجعة ولا تأمل، وكانت هذه العقائد الضريرة المتجذرة المرتع الذى تخالطه أغراض الكهانة وتدابيرها.
اتباعاً للأسلاف عبدوا الأوثان والتماثيل والأصنام، وقاوموا عناداً وعماءً كل رسالة تأتى من السماء لهدايتهم، هكذا قالوا لنوح عليه السلام: «مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَائِنَا الأوَّلِينَ» (المؤمنون 24)، وبهذا تذرعوا لإبراهيم الخليل عليه السلام: «إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ» (الأنبياء 52 54)، وهكذا قالوا لموسى عليه السلام: «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا» (يونس 78)، «وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَائِنَا الأوَّلِينَ» (القصص 36). وبذات هذا المنطق الضرير عاندت ثمود دعوة نبيها صالح عليه السلام: «أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا» (هود 62)، وبهذا تذرعت «مدين» لنبيها شعيب عليه السلام فقالوا له: «أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا» (هود 87)، وبمثل هذا التعجب الضرير تذرعت «عاد» لنبيها هود عليه السلام فقالوا له: «أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا» (الأعراف 70).. وبهذا القبح والتهافت والضلالة، قال المشركون للرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام: «.. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» (الزخرف 22، 23) وهكذا، «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (المائدة 104)، واجه الإسلام هذا العماء بنبوة الهداية التى تهدى العقل والضمير، وبتغليق كل سبل الكهانة التى كانت تجد لنفسها مرتعاً فى هذه الضلالة الغبية الضريرة.
لا محل فى الإسلام لتحكم السلطة الدنيوية فى عقل الإنسان وعقيدته
رأينا القرآن الحكيم يحمى الإنسان من سلطان الكهانة، ومن سلطان عبادة الأسلاف، ومن سلطان العرف الفاسد السائد، وحماه كذلك من سلطان ونفوذ المستبدين، ومن تسلطهم على الإنسان فى غير ما يرضى العقل والحق والدين، والإسلام الذى انتصر للعقل وأمر باستقلال النظر فى مواجهة عبادة السلف، وسلطان الكهان والأحبار، ومواجهة الاستبداد هو هو الذى امتاز بين الأديان بوصاياه بتوقير الآباء والرجوع فيما لا يُعْلم إلى أهل الذكر، والطاعة لولاة الأمور ما كانوا فى طاعة الله، وبر الآباء واجب فى غير الضلال والشرك بالله، والرجوع إلى أهل الذكر الذين يُنْتفع بعلمهم، وطاعة الولاة تكون فى غير المعاصى، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
عن الآباء الذين أمر بتوقيرهم وطاعتهم والإحسان إليهم، نهى عن الانصياع إليهم فى الشرك بالله، فقال تعالى: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً» (لقمان 15)، لا طاعة لهما فى معصية الله والإشراك به.. ولا مصادرة على وجوب مصاحبتهما فى الدنيا معروفاً، وقوام هذا كله أن حساب النفس يجرى فى إطار القدرة والاستطاعة، وفى منارة العقل والهداية، بلا حجر ولا وصاية!
رفض الإسلام للعرف السائد إذا ما خالف العقل
تقديم العقل فى الإسلام اقتضى حمايته من أى مصادرة عليه، وقد كان من أقوى عوائق الهداية فى صدر الإسلام، قوة العرف، وعبادة السلف وما يصاحبها من عادات وخرافات، أبى الإسلام على الإنسان أن يعنو لأى قوة أو سطوة تصادر عقله واختياره، ونهاه فيما نهاه وأسلفناه، عن عبادة الأسلاف والأجداد والآباء، وعن الخضوع لأى سلطة دنيوية، فى الوقت الذى أباح الإسلام اتخاذ العرف مصدراً أخيراً للتشريع، ما لم يخالف مبادئ وأحكام الإسلام، فإنه حذر من ضلال العرف الفاسد السائد الذى يصادر عقل الإنسان وحرية اعتقاده وهدايته، وحذر القرآن الحكيم تحذيراً شاملاً من فساد الكهان والأحبار، وأبطل سلطانهم على الضمائر، ودحض ادعاءاتهم القدرة على التحريم والتحليل والإدانة والغفران ونبه إلى مخاطر وسوء عاقبة الاستسلام لخداعهم.
أينما ولى المتأمل فى باحة الإسلام يجد أن قوامه الهداية، والحكمة والعقل والتفكير، وأنه لا موضع فيه لكهانة ولا كهان!