كثر الحديث فى الفترة الأخيرة حول تقييم فترة حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وما إذا كانت هى التى قادت المصريين إلى ما يشكو منه الناس من غلاء أم أنها كانت النقيض لهذا الغلاء.. وقد ارتفعت حدة العصبية فى النقاش حتى إننى قرأت أن نجل الرئيس مبارك «علاء»، قد تصدى بالرد المباشر والحاد لما قاله النائب مصطفى الجندى فى إحدى القنوات الفضائية.. والحقيقة أنه من المستحيل اختصار ثلاثين عاماً كاملة من تاريخ مصر فى مثل هذه النقاشات العارضة والعصبية التى يعبر عنها لقاء فى برنامج أو تدوينة على «الفيس بوك»، أو رد فعل غاضب أو مؤيد على موقع «تويتر».. يحتاج الموضوع إذاً إلى حوار طويل ومستمر، وحتى يحدث هذا فيمكن إجمال الأمر فى التالى:
أولاً: دأب المصريون دائماً على النظر إلى كل ماضٍ باعتباره (زمن جميل مضى)، وأن كل أيام تنتمى للزمن الفائت هى أيام جميلة لن تعود، فالعصر الفرعونى أعظم العصور بما لا يقارن بأى عصر آخر، وعصر محمد على لا يقارن بعصور أحفاده «إسماعيل وفؤاد وفاروق»، أما عصر «فاروق» نفسه فهو العصر الذى بكى عليه المصريون بحرقة، حين عرض مسلسل يروى قصة حياته عام ٢٠٠٩، ولم يتوقف الناس وقتها عن مقارنة ذلك العصر (الجميل) بالانحطاط والتدهور الذى وصلت إليه مصر فى عصر «مبارك» الذى يبكون عليه الآن!
ثانياً: استمر المصريون فى التفكير بالطريقة نفسها، فالستينات كانت أروع، بما لا يقارن بالسبعينات، وتلك كانت أروع بكثير جداً من الثمانينات التى كانت أفضل بكل تأكيد من التسعينات.. التى هى أفضل مما بعدها.. ولم ينتبه الذين يفكرون بهذه الطريقة إلى أن ثمة تدهوراً حاصلاً فى المجتمع يرجع إلى أسباب متعدّدة مثل زيادة عدد السكان وعدم مواكبتنا للثورات المختلفة فى العالم.
وتراجع مكانة العمل والعلم وغيرهما من العوامل المركبة التى لا يمكن تحميل مسئوليتها لرئيس بمفرده، ولا حتى لرؤساء مصر، واحداً تلو الآخر.
ثالثاً: لا يعنى هذا أننى أنفى مسئولية الرئيس مبارك عن تدهور مكانة مصر و(بهدلة) المجتمع المصرى خلال ثلاثين عاماً تولى فيها الحكم، وكانت أكبر خطاياه فيها أنه اعتمد مبدأ ترك الأمور تجرى على أعنتها وتحسم نفسها بنفسها، ففى ما يتعلق بمستقبل البلاد بعده لم يتكلف الرجل مشقة التفكير فى ما بعد حكمه، ولم يحسم الصراع حول مستقبل مصر، وترك عدة جهات ومؤسسات تتصارع حول مستقبل البلاد، فكانت النتيجة ما حدث فى يناير ٢٠١١، وما يعانى الجميع من آثاره حتى الآن.
رابعاً: استمر «مبارك» فى أن يكون (مستطيعاً بغيره) وفاعلاً بيد الآخرين.. وحين فكر فى تنمية هذا البلد فإنه عهد بذلك إلى بضع عائلات محدودة تقاسمت المشاريع والأرباح وراكمت المليارات دون أى ضمانات لعدالة التوزيع، ودون أن تتساقط ثمار التنمية للأسفل، فكان ما كان فى يناير ٢٠١١، الذى يعانى منه الجميع حتى الآن.
خامساً: لم يكن «مبارك» مؤمناً بالشعب المصرى، ولا بقدرته على أن يصنع فارقاً.. وكان يرى فى الشعب مجموعة من الأفواه الجائعة التى يتحمّل عبء إطعامها وجلب المساعدات التى تعينه على هذه المهمة، وكان من الطبيعى أن ينعكس هذا على نظرته إلى حقوق الناس فى التعليم والصحة والنقل.. وهى كلها مجالات شهدت تراجعاً كبيراً فى عهده، لا ينكره إلا مكابر، ولا يعنى هذا أن الرجل لم يكن وطنياً، ولا أنه بذل أفضل الجهد من وجهة نظره كى تكون الأمور أفضل، لكن ذلك له حديث آخر فى قادم الأيام بإذن الله.