التشويش ببساطة يعنى عدم الوضوح، وهو فى اللغة يعبر عن وجود نوع من اللبس فى المعانى يؤدى إلى اختلاطها. كل شىء فى عقل المشوش وكذا وجدانه مختلط، لأنه يحمل فى باطنه كل شىء وعكسه. وإذا كان الشيطان يكمن فى التفاصيل، كما يقولون، فإن التشويش بما يؤدى إليه من خلط واختلاط يمثل البوابة الرئيسية التى يدخل منها الشيطان إلى بنى آدم. وقد ألّف «ابن الجوزى» كتاباً لطيفاً عنوانه «تلبيس إبليس» يذكر فيه أن التلبيس يعنى إظهار الباطل فى صورة الحق، وهى اللعبة الكبرى التى يجيدها الشيطان عندما يدخل على بنى آدم فيزين له الباطل ويبرر له الفساد والخراب. ولو أنك تأملت الآية الكريمة التى تقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا» فستخلص منها إلى العديد من المعانى التى توضح لك الفكرة. فالهواية المفضلة للمتشيطنين تتمثل فى تزيين القبيح وتقبيح الجيد.
الإنسان فى عصرنا هذا يعيش فى عالم أساسه التشويش. انظر إلى أية معلومات تتردد حول أى شخص أو أى موضوع، وستجد أنها تحمل الشىء وعكسه، فلان فاسد مُرتشٍ، تم القبض عليه متلبساً بجريمة، فجأة يخرج من يقول لك، لا بل هو ضحية، إنه يصلى ويصوم وكان يرتب أموره هو وأسرته من أجل الحج إلى بيت الله الحرام بعد أسابيع. مستشفى 57357 وما يجمعه من تبرعات مليارية هل تذهب للمرضى أم أن إحدى الأسر «عملت بالتبرعات» جمعية منتفعين. بماذا سيخرج المتابع لتلك المناظرات التى تقدم الشىء ونقيضه؟. سيخرج مشوشاً، إذا سألته عن فلان الفلانى هذا سيقول لك إنه طيب وشرير، وفاسد وصالح، وجانٍ وضحية، إنه كل حاجة وعكسها. عبارة «يا كل حاجة وعكسها» كانت عبقرية فى مكانها من أغنية فيلم «عسل أسود»، لأنها ببساطة أصبحت تصف واقع الحال الذى يسود بر المحروسة منذ عدة عقود. من المؤكد أن هناك من يستفيد من هذه الحالة التى تبدو فيها الحياة لوحة مرسومة بألوان اللخبطة التى ترسم القطة فأراً، والفأر أسداً، والفيل نملة، والخروف نعجة. إنها حالة «اللخبطة» التى تتوه معها الحقيقة.
هل نحن ومن يشابهنا من شعوب الأرض لا نحتمل الحقيقة والمعرفة الرائقة والمعلومة المتماسكة الواضحة الحاسمة؟. ولماذا نتحدث عن التحمل أو عدم التحمل.. دعونا نسأل مباشرة: هل نحن نريد الحقيقة أصلاً؟. فى رواية «تلك الأيام» للمبدع الراحل «فتحى غانم» تدهمك فكرة «الزهد فى الحقيقة» من جانب شعوبنا منذ السطر الأول فيها. فالدرس الذى تعلمه البطل من أستاذه الفرنسى أن بلده لا يحتمل الحقيقة ولا يريدها بسبب ظروفه السياسية والثقافية، إنه يفضل عليها أنصاف الحقائق. نصف الحقيقة يعنى التشويش. حالة التشويش أحياناً ما تكون مريحة للإنسان فهى تعفيه من أى مواقف تترتب عليها مسئوليات لأن «الدنيا مش واضحة أدامه»، لكنها تؤدى لدى البعض إلى التحرك بأسلوب العربة الطائشة التى لا تجيد السير فى خطوط مستقيمة تستهدف الوصول إلى نقاط محددة، بل تتحرك خبط عشواء، فتلتوى يميناً ويساراً لتصدم كل ما ومن تقابله.