كن نفسك أولاً لتستطيع أن تحب غيرك
«اعرف نفسك»، قالها قديماً فلاسفة اليونان واعتبروها شرطاً أساسياً من شروط دخول قدس أقداس الفلسفة، ولكننا الآن على يقين من أنها ليست شرطاً أساسياً للتفلسف فقط ولكنها شرط أساسى للعلاقات الحميمية أيضاً.
وإذا كان الفلاسفة قد قالوها قديماً فقد قالها علماء النفس والاجتماع حديثاً، من أمثال أريكسون فى عام 1963 وروجرز 1972 وولف 1982، فقد انتهوا فى أبحاثهم إلى نفس النتيجة المهمة، وهى أنه لا قدرة لإنسان على إقامة أو بناء علاقات حميمة مع الآخرين دون أن يكون قد امتلك سابقاً ومنذ البداية إحساساً قوياً ومعرفة راسخة بالذات ودرجة قبول عالية للنفس. مثل هذا الإحساس سيساعدنا على معرفة احتياجاتنا، وعلى التأكد من مشاعرنا وإبرازها، وبالتالى سيمكننا من المشاركة والتواصل مع الآخرين.
أن تقبل نفسك هذه كلمة السر فى العلاقة الحميمة مع الآخر، لأنها تسمح لك بأن تكون نفسك ولست شخصاً آخر تحاول أن تتقمص شخصيته، وإذا كان كبار الفلاسفة قد قالوا «اعرف نفسك»، فنحن نضيف «كن نفسك»، كن نفسك بصدق ولا تحاول أن تضع مكياجاً صارخاً فتبدو كالبهلوان، كن نفسك بصدق ولا تستعر الآخرين أو ترتديهم، فهم سيكونون إما كائنات فضفاضة تسقط منك عند أول بادرة حركة، وإما كائنات ضيقة تخنقك وتكبس على أنفاسك فى الشهيق وفى الزفير.
إن لم تقبل ذاتك أو تحبها، أو إذا أحسست بالخجل منها سيصبح من الصعب بل من المستحيل أن تنشئ أو تحتفظ بعلاقة حميمة، ما دمت مشغولاً بأن تؤكد للآخرين أنك شخص جيد، وما دمت محاصراً بالسؤال الخالد «هل أنا إنسان مقبول؟»، أو فى النهاية وباختصار مشغول بأن يعرفك الآخرون ويحترموك، وحتى إذا نجح مثل هؤلاء الأشخاص «الموسوسين» فى محاولاتهم، فإنها تأخذ منهم جهداً فظيعاً ووقتاً طويلاً.
نوع آخر من الناس هم «القلقون على» أو «المحبطون من» ذواتهم وأنفسهم، وهذا النوع يتعامل مع مشاعره بطريقة تغلق أو تسد الطريق أمام معرفة الذات، وهم يفعلون ذلك بطرق كثيرة، منها مثلاً: تعاطى الأدوية بما فيها الكحوليات للهروب من مواجهة الذات، أو يجلسون أمام التليفزيون فاغرى الأفواه، لكى ينتزعوا أنفسهم من أنفسهم، أى إنهم يقومون بعملية نشل، لكنها ليست نشلاً لمحفظة وإنما نشل للذات، للنفس بموافقة نفس الشخص الذى لا يبلغ قسم البوليس على الإطلاق عن عملية النشل هذه بل يفرح وينبسط و«يطنش»!
هناك طريقة أخرى يلجأ إليها هذا النوع من البشر، وهى طريقة الانغماس فى العمل حتى النخاع، تحت دعوى الجدية والإخلاص، لا تضحك على نفسك إذا كنت من هذين الصنفين السابقين وتقول: «لا، بالرغم من ذلك أدخل فى علاقات»، لأنه ببساطة دخول بغرض حمايتك بواسطة الآخر أو تسليتك من خلاله، وهذا بالطبع حل مؤقت ومزيف وخادع.
لكن هل يعنى ذلك أن كل شخص لا بد أن يكون سعيداً تماماً بنفسه، راضياً عنها، و«منشكحاً» تمام «الانشكاح» حيال أفعالها وصفاتها؟ بالطبع لا، فكل واحد منا إذا نظر إلى أعماق ذاته بقليل من الصدق لن يرضى عما فى داخل هذه الأعماق، ولكن ما نقصده هو أن نقوم بعملية غربلة مستمرة نفصل فيها ما نحبه فى ذاتنا عما نكرهه فيها، ونحاول أن نتغير، هذا هو الفرق الجوهرى، فحين تقف عجلة هذا التغيير وتصدأ تروسها يكون المرض، ولا يكفى أن ترفض ثم ترفض ثم ترفض، ولكن ارفض ثم تمرد ثم قم بالتغيير.
فى النهاية، يحذرنا علماء النفس تحذيراً مهماً، وهو أننا لا بد أن نحتفظ بجزء ما من ذواتنا أو إحساسنا بالذات، حتى لو انغمسنا فى علاقة حميمة مع الآخر، وينصحوننا بألا نكون منشغلين بهذه العلاقة لدرجة تسرق الإحساس من أناملنا فلا نستطيع حتى أن نتعرف على أنفسنا، لأن الضوء المبهر لهذه الحميمية فى بعض الأحيان يعمى الأبصار والبصائر.
العلاقة الحميمة التى تمتص معظم وقتنا وجهدنا وتستنزف عواطفنا من الممكن أن تكون مبهجة نوعاً ما أو ممتعة لدرجة ما، ولكنها تترك وقتاً ضيقاً جداً للتعرف على النفس، وتدع ثقباً كـ«خرم الإبرة» ليطل منه الإنسان على ذاته. هذه العلاقة الحميمة التى أسميها علاقة «ورقة النشاف» والتى تمتصك كلك، هى علاقة مدمرة أكثر منها علاقة خصبة، وعلى العكس من العلاقات الحميمة التى تساعدك على قبول ذاتك ومعرفة نفسك أكثر، تلك هى التى تكون العلاقات السليمة الصحية المبشرة.
«الحميمية» مع الآخر:
الحميمية ليست واحداً صحيحاً لا يقبل القسمة إلا على نفسه، بل هى أجزاء ومكونات وعناصر، لا نستطيع تقسيمها على حسب درجة شدتها أو قوتها فحسب، بالمقارنة مع علاقة أخرى، ولكن فى نفس العلاقة من الممكن أن تختلف درجة الحميمية من حين إلى آخر، تتذبذب كبندول الساعة تبعاً لتوقعات كل طرف عن مشاعر الطرف الآخر، وطبقاً لآمال كل منهما فى الآخر، ففى بعض الأحيان يتعامل الشخص مع العلاقة كموظفى المصالح الحكومية الذين يعانون من مرض الاضطهاد المزمن، يسخطون دائماً، ويمارسون فى وقت الفراغ مزيداً من السخط، هذا الشخص يحس على الدوام أن هذه العلاقة ليست عادلة، والأحاسيس فيها من جانب واحد، ويظل يبحث عن هذه القسمة المتساوية للأبد وينشغل بها ويفقد القدرة على المتعة والإمتاع، على العكس من الأشخاص الذين يرون دائماً أنهم يعيشون علاقة متوازنة، فهؤلاء بالفعل هم الأكثر رضا وسعادة.
بالطبع هذا الكلام لا يعنى أننا نغفل تأثير الظروف الخارجية والأجواء المحيطة التى من الممكن أن تساعد على إحباط العلاقة، مثل البعد الجغرافى أو المكانى، وأيضاً ضغوط العمل التى تحول مؤقتاً الاهتمام وتستنفد طاقة الشخص بعيداً عن حقيقة العلاقة إلى أوهام أخرى.
لكى نفهم الحميمية أكثر لا بد أن نفهم ونختبر عناصرها الأساسية، مثل الاهتمام والمشاركة والثقة والالتزام وغيرها، ما سيساعدنا فى فهم سر هذه العاطفة. ولكن هل توجد هذه العناصر منفردة ومعزولة عن بعضها البعض؟ بالتأكيد لا، فالحميمية سبيكة مكونة من عدة معادن، أقصد مشاعر كل منها متفرداً عن الآخر، ولكنه يقوى الآخر ويزيد من صلابته، وبالتالى من صلابة السبيكة كلها.