لا أدرى لماذا تذكرت مناهج الدراسات الاجتماعية للمرحلة الابتدائية وأنا أقرأ وأسمع عن قرار السيدة الفاضلة وزيرة الصحة.. ومن يتصفح كتاب رابعة أو خامسة أو سادسة ابتدائى، وبلاش الإعدادى، يجد فى كل درس عموداً يقول «إلى ماذا يهدف هذا الدرس؟».. وفى آخر كل عمود نجد عبارة «الولاء والانتماء»، سواء كان الدرس عن الاحتلال الفارسى، أو دقلديانوس أو أوكتافيوس أو ابن طغج الإخشيد أو ابن طولون أو سيف الدين قطز.. ويبدو أن واضعى المناهج جاءتهم توصية بالتركيز على تغذية روح الانتماء والولاء فى العملية التعليمية فوضعت هذه الجملة، وهى كفيلة بتعليم الانتماء سواء كان الدرس له علاقة أم لا، وفى الغالب لا تكون هناك أى علاقة، وكمية النفور من مناهج التاريخ الساذجة التى لا تهدف للفهم بل للحفظ والترديد قادرة على نزع أى انتماء من نفوس الأطفال بل وغرس كراهية شديدة للتعليم واللى عايزين يتعلموا.
ويبدو أن معالى الوزيرة فى أول جلسة لها على مقعد الوزارة جاءها الإلهام بأن تترك جانباً الآن كل مشاكل المستشفيات الحكومية، وما أكثرها، وكل مشاكل الأطباء، وما أكثرها، ومشاكل نقص الدواء والمستلزمات الطبية.... و.... و.... إلى آخره، وأن تقرر فجأة أن تعلمنا الانتماء حيث إن سيادتها قد رأت أننا كأطباء نعانى نقصاً شديداً فى الانتماء وحب الوطن.. وأنا لا أمانع على الإطلاق فى تعلم المزيد من الانتماء، والعلام حلو والانتماء أحلى، ولكن كيف قررت معالى الوزيرة أن تعلمنا الانتماء؟
بإذاعة النشيد الوطنى عن طريق الإذاعة الداخلية للمستشفيات ثم يعقبه قَسَم الأطباء يومياً.. ورأيها أن هذا سيذكر الأطباء بمبادئ الإنسانية المنصوص عليها فى القسم.. هكذا قررت معالى الوزيرة أن سماع النشيد الوطنى يومياً على الريق سوف يعلم الشطار الانتماء.. أما مسألة القسم فأظنها لا تعلم أنه قد توقف منذ أيام دفعتنا عام 1973 وقبلها بعدة دفعات.. وأصبح موضة قديمة.. وأنا ودفعتى لم نقسم القسم عقب التخرج، ويا سبحان الله وأقسم بالله عندنا ولاء وانتماء ومارسنا الطب بكل القيم النبيلة وفى أصعب الظروف المعيشية فى الريف ولم ننسَها لا لشىء سوى أننا تعلمنا الطب ومارسناه وأحببنا الوطن من قبل حتى نشيد «بلادى بلادى لكى حبى وفؤادى».. وتبقى عدة تساؤلات للسيدة الوزيرة:
أولاً: هل يكون تطبيق القرار اللوذعى على مستشفيات الحكومة فقط دافعاً للعاملين فى المستشفيات الخاصة والعيادات والمستوصفات وغيره للعمل بدون ولاء ولا انتماء ولا مبادئ إنسانية؟ ومع الوقت سيكون لدينا «طبيب أبوانتماء» و«طبيب أبومن غير انتماء»؟
ثانياً: هل يبدأ يوم الطبيب فى أى مستشفى فى ساعة واحدة؟ وهل يتحول العمل فى المستشفيات الحكومية إلى ساعات محددة تبدأ بالنشيد الوطنى؟ أم أن العمل فى أى مستشفى متواصل خلال ساعات اليوم الأربع والعشرين؟ وهل يترك كل طبيب ما يعمل ويسرع ليقف احتراماً للقسم؟ سواء فى قِسْم الولادة أو داخل غرف العمليات أو داخل حضّانة أطفال أو عناية مركزة أو استقبال أو طوارئ... أو...... أو..... بمعنى هل يترك الطبيب سيدة تضع مولودها ويسرع للوقوف لسماع النشيد؟ أو يضع المشرط فى بطن المريض ثم يتركه أو يوقف جهاز الأشعة أو جهاز التحاليل أو وضع المحاليل إلى آخره...؟
هل يترك رجل الإسعاف مريضه داخل السيارة وينتظر حتى ينتهى النشيد سواء المريض يختنق أو ينزف أو يعانى من حروق؟
ثالثاً: هل يكون صوت النشيد الوطنى فى الإذاعة الداخلية لأى مستشفى عائقاً عن سماع صوت استدعاء طبيب معين للطوارئ أو لأى قسم آخر أو يغطى على أصوات أجهزة العناية المركزة الدقيقة أو أجهزة غرف العمليات؟
رابعاً: هل نتعلم جميعاً معنى الانتماء من سماع النشيد الوطنى؟
وهل سمع مصطفى كامل نفسه وهو ملهم واضع هذا النشيد نشيداً مثله ليتعلم منه الانتماء؟ وكذلك مؤلف النشيد الشاعر محمد يونس القاضى وملحنه سيد درويش؟ كنا فى الخمسينات نغنى «اسلمى يا مصر إننى الفدا...» فى طابور الصباح قبل تحية العلم؟ وبعد حرب 56 غنينا «والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى».. وظل اللحن هو السلام الوطنى حتى غيره السادات إلى «بلادى بلادى».. والحمد لله ألف حمد وشكر وإلا كان زمان الأطباء يغنون الآن قبل العمل وأثناءه «والله زمان يا سلاحى»!!!
سادساً: هل يتمكن هذا النشيد وتكراره عشر مرات يومياً من القضاء على الإهمال والفساد وغياب الضمير.. وهل مستوى الكفاءة والانضباط فى مستشفيات العالم المتقدم سببها نشيد «بلادى بلادى» برضه؟
سابعاً، وهو الأهم: ماذا يفعل الطبيب المسكين بالمرتبات الهزيلة وهو يعالج مرضى فى مستشفيات الحكومة ووزارة الصحة عندما لا يجد دواء ولا جبساً ولا سرنجات ولا شاشاً ولا قطناً ويضطر آسفاً لطلبها من أهل المريض الذين لا حول لهم ولا قوة ولا أموال.. وهل يطمئننا قرار السيدة الوزيرة هذا إلى أنها قادرة على تنفيذ مشروع ضخم ومعقد كالتأمين الصحى، وهى لأول وهلة قد أعطتنا انطباعاً بأنها تبحث أولاً عن الإعلام والتصوير والشهرة تاركة خلفها كل هذا الكم من المشاكل والنقص؟
وأخيراً: هل تعلم معالى الوزيرة كم الإساءة التى حدثت للسلام الوطنى والنشيد المحبب لنا على السوشيال ميديا.. وكم السخرية المؤسفة من هذا القرار الساذج؟
رجاء أخير لمعالى الوزيرة: إلغاء هذا القرار من الحكمة ولا تقلقى على انتماء الطبيب المصرى فهو بخير من زمان.