تاريخياً، تضع القمم بين قيادات القوى الكبرى حدوداً فاصلة بين مراحل سابقة وأخرى لاحقة، القمة بين القوتين الأكبر نووياً فى العالم تقوم بما هو أكبر من مجرد وضع الفواصل، إذ ترسم ملامح المستقبل، تحدد الأدوار وتعين المسئوليات وتغلق ملفات كلياً أو جزئياً، وتفتح أخرى وتتركها لتفاعلات الأحداث، لعل قمماً لاحقة تضع حلولاً لها، المهم فى هذه القمم أن تمنع الحرب النووية وتسهم فى وضع آلية لإدارة شئون العالم دون أن يعنى ذلك التفاهم على كل شىء، وفى أفضل الأحوال التفاهم على بعض الأمور الضاغطة على الطرفين معاً، ووضع سقف لأى صراع محتمل.
قمة هلسنكى بين روسيا بوتين وأمريكا ترامب ليست استثنائية من حيث ما يمكن أن تقدمه من تفاهمات أو حلول لبعض القضايا الدولية أو الثنائية المؤلمة على حد قول الرئيس بوتين، كما أنها ليست قمة الاختراقات الكبرى والشاملة لما يهم العالم بأسره، هى قمة جمعت بين هذا وذلك، استثنائية من حيث الظروف والملابسات وكم القضايا والمشكلات التى تعين على البلدين مناقشتها والتفاهم حولها، وليست قمة الاختراقات الكبرى نتيجة تداخل المشكلات الضاغطة عليهما مع قوى دولية وإقليمية أخرى، ولكل منها دور فى تعقيد أو حل هذه المشكلة أو تلك، فضلاً عن ثمن لا بد أن تحصل عليه تلك القوى الإقليمية فى أى تطور محتمل، ولأن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا لم يعودا القوتين الكبيرتين ولكل منهما فريق من الدول يسير على نهجهما طواعية، لقد انتهى زمن الحرب الباردة وزمن الاستقطاب بين معسكرين، العالم الآن فيه أكثر من قوة صاعدة تخصم بشكل أو بآخر من نفوذ روسيا وأمريكا، وهناك أكثر من معسكر دولى سواء اقتصادياً أو عسكرياً أو أمنياً، وفى داخل كل معسكر شد وجذب يؤثر على تماسكه ووحدته، المثل الأبرز ما يتعلق بالناتو، وهو الحلف القوى الذى وظفته الولايات المتحدة كقائد لا يُشق له غبار إبان الحرب الباردة فى إنهاك معسكر وارسو السوفيتى إلى أن تم إنهاء وجوده تماماً نهاية الثمانينات فى القرن الماضى، الآن يعانى الناتو من القيادة الأمريكية زمن ترامب، حيث الرؤية الضبابية لدور الحلف، وارتفاع الأثمان التى يجب أن تتحملها الدول الأعضاء وأسلوب التوسع شرقاً وقضايا هيكلية عديدة.
الأكثر من ذلك، ففى الداخل الأمريكى الكثير من الانتقادات من الجمهوريين والديمقراطيين لتلك القمة وغياب الاستعداد المناسب لها وعدم وضوح الهدف من ورائها، وما الذى يمكن أن تقدمه للأمن الأمريكى، مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة أسهمت بدورها فى التشكيك ببناء علاقة متوازنة مع موسكو، فالمدعى العام أصدر اتهامه المباشر لرجال استخبارات روس بالتدخل فى الانتخابات الأمريكية عبر اختراق حملة المنافسة هيلارى كلينتون، أوروبا تتخوف من صفقات أمريكية روسية على حسابها، المفارقة الكبرى أن ترامب المحاصر بمشكلات داخلية والشاكى دوماً من قلة تقدير لما يعتبر أنه أنجزه داخلياً وخارجياً، ذهب إلى لقاء بوتين بعد أن عَمّق المشكلات داخل الناتو، بينما ذهب بوتين إلى القمة وهو منتشٍ بما حققته بلاده فى تنظيم أهم مسابقات كرة القدم العالمية، التى كشفت عن إمكانيات الدولة الروسية الناعمة بصورة طالما كانت غائبة عن كثيرين،
ترامب حدد هدفه الأكبر من القمة مع الرئيس بوتين فى أهمية التواصل، فمهما كنت عدواً أو منافساً، فمن المهم أن يتم التواصل وتبادل الآراء، والسيطرة النسبية على بؤر الصراع، فى اللقاءات الصحفية للرئيس الأمريكى ترامب قبل أن يعقد قمته مع زعيم روسيا الرئيس بوتين، حاول شرح الأسباب التى دعته إلى قبول اللقاء المباشر مع الرئيس بوتين، رغم أنه وصف كلاً من روسيا والصين وأيضاً دول الاتحاد الأوروبى بأنهم أعداء ومنافسون فى الآن نفسه، ورغم التخبط فى هذه الكلمات واتساع الفارق بين مفهوم العدو ومفهوم المنافس، إلا أن الأمر يبدو لدى ترامب وكأنه شىء واحد، على العكس من ذلك لم يتحدث بوتين كثيراً عن القمة، ترك الأمر لوزير خارجيته لافروف ووزير دفاعه سيرجى شويجو، وكلاهما أوضح أن الهدف من القمة هو التواصل لكسر حدة الجمود فى علاقات البلدين، التى وصلت إلى أعلى مراحل السوء على عكس ما كان متوقعاً قبل أن يصل ترامب إلى سدة الحكم قبل 20 شهراً، فى الآن نفسه التأكيد على حق روسيا فى تطوير منظومات الأسلحة لديها لحماية أمنها القومى، ولكن دون التورط فى سباق تسلح يؤذى المخصصات المطلوبة للتنمية.
انشغال روسيا فى كثير من قضايا الشرق الأوسط وفى المقدمة سوريا وإيران وإلى حد ما فلسطين والأمن الإقليمى وجذب تركيا كشريك، وهى عضو مهم فى الناتو، فى تحديد بعض مسارات الأزمة السورية، وهى قضايا تتورط فيها الولايات المتحدة لأهداف ومسارات مختلفة، فمن الطبيعى أن يحدث بعض تفاهمات حول أجزاء من هذه القضايا أو كلها، لكنها تفاهمات غير واضحة حتى الآن، فى المؤتمر الصحفى للرئيسين رأينا اهتمام ترامب بأمن إسرائيل فى حين كان السؤال عن حل الأزمة السورية ومراعاة مطالب نتنياهو، أما بوتين فركز على أهمية احتواء أزمة اللاجئين السوريين فى دول الجوار، هذا النوع من الإجابات يعنى أن التفاهم حول سوريا ارتبط أساساً من وجهة نظر ترامب بإبعاد إيران عن سوريا، أما باقى التفاصيل فليست مهمة، المهم هو أمن إسرائيل، لم تكن هناك كلمة واحدة عن فلسطين أو غزة أو صفقة القرن، قضايا مهمة ولكنها غائبة، ربما كانت هناك توضيحات فى اللقاء الثنائى فقط، الاتفاق النووى الإيرانى كان حاضراً غائباً فى الوقت ذاته، مطالبة ترامب لبوتين بالضغط على إيران لا تفسر أى شىء جديد، والنتيجة أن كلا البلدين سوف يستمران فى موقفيهما تجاه إيران واتفاقها النووى.
إبعاد الجانب العدائى، كان من أولويات ترامب فى العلاقة مع روسيا، فى الآن ذاته الاهتمام بتوضيح ما الذى قامت به موسكو بالفعل فى الانتخابات الأمريكية وحقيقة تدخلها، الأمر أنكره بوتين، وهذا ليس جديداً فى حد ذاته، ولكن الجديد هو طلبه بأن يكون هناك تعاون رسمى وفق قاعدة التعاون بالمثل، وأن يشارك بعد توقيع اتفاق قضائى، ممثلون قضائيون أمريكيون فى التحقيقات مع المتهمين الروس المفترضين فى اختراق الحاسوب الخاص بحملة هيلارى كلينتون، وأن يشارك الروس فى أى تحقيقات تجريها السلطات الأمريكية، الفكرة ليست جديدة، ولكنها تقول للأمريكيين إنهم مكشوفون فى اتهاماتهم.