انتهت واقعة صفين العسكرية بين على ومعاوية بمسألة التحكيم التى قادها كل من عمرو بن العاص وأبى موسى الأشعرى، وانتهت إلى خلع على خليفة المسلمين ومعاوية والى الشام وترك أمر المسلمين شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم. من جديد قفزت ورقة الشورى فى إطار الصراع بين المعارضة والحكم. ومؤكد أن ما أسفرت عنه واقعة التحكيم خدم «معاوية» فى المقام الأول، والحل الذى خرج به الحكمان، كان بإيعاز وترتيب من عمرو بن العاص ممثل «معاوية».
أدت نتيجة التحكيم إلى ظهور حزب معارض كبير، تمثل فى حزب الخوارج الذين رفضوا ما تمخض عنه الحكمان، وخلعوا كلاً من على ومعاوية، وكفّروا أبا موسى وعمرو، وقرروا التخلص من الجميع. ومن عجب أن تجد أن مسألة الشورى كانت تمثل جوهر البرنامج السياسى للخوارج. يقول «ابن الأثير» فى «تاريخه»: «ولما رجع على من صفين فارقه الخوارج وأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعى التميمى، وأمير الصلاة عبدالله بن الكوا اليشكرى، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر. فلما سمع على ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له: فى أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فقالت الخوارج: استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسى رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى. فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط على يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل».
البرنامج السياسى الذى تبناه الخوارج بالأمس، هو البرنامج السياسى الذى تتبناه جماعات السيف المناوئة للحكام اليوم. فهناك تمحك بقضية الشورى، وحق المسلمين فى الاختيار لأنفسهم، وهو أمر يظل قائماً ما دامت الجماعة المناوئة فى صفوف المعارضة، لكن الأمر يختلف عندما تصل إلى الحكم فتصبح السلطة حكراً عليهم، لأنهم ببساطة يرون فى أنفسهم رسل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المجتمع المسلم. أثبتت تجربة «الخوارج» ما سبق أن أفصحت عنه تجربة عل بن أبى طالب فى الحكم، حين ألبس الصراع بينه وبين معاوية ثوباً دينياً، فنظروا إلى صراعهم مع على ومعاوية وكذا من تعاقب على المسلمين من حكام على أنه صراع دينى، بين بشر لا يحتكمون إلى كتاب الله، ويحكّمون البشر فى أمورهم، واعتبروا مقاومة هذا التوجه نوعاً من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونظروا إلى السيف كأداة فاعلة فى تحقيق هذا المبدأ فنابذوا به الحكام عبر حلقات مختلفة من التاريخ الإسلامى، توارى فيها مبدأ الشورى والسياسة لحساب العنف والمواجهة بالسلاح.