الحديث عن جنازتَى الزعيم مصطفى النحاس (توفى 23 أغسطس 1965)، والزعيم جمال عبدالناصر (توفى 28 سبتمبر 1970). كلاهما كان خصماً للآخر. قامت ثورة يوليو 1952 فأطاحت بالساسة القدامى الذين حكموا مصر قبل هذا التاريخ، وعلى رأسهم بالطبع «النحاس باشا» الذى مثّل رمزاً من رموز الوطنية المصرية، ونال نصيباً وافراً من محبة هذا الشعب، بعد وفاة المؤسس الأول لحزب الوفد سعد باشا زغلول. ولم يكن عبدالناصر بالطبع أقل شعبية من «النحاس»، فبعد صدور قانون الإصلاح الزراعى وتوزيع أراضى الباشوات على الفلاحين، ومصادرة أموال ومشروعات الأغنياء وتأميمها فى يوليو 1961، وتمكين العمال وأفراد الطبقة الوسطى من رقاب أصحاب المال، نال جمال عبدالناصر شعبية كبيرة بين المصريين.
عاش «النحاس»، وكذا جمال عبدالناصر، كما يعيش كل إنسان، وماتا كما يموت كل البشر، ومثّلت جنازة كل منهما مشهداً علق بالذاكرة المصرية، وسجلته كتب التاريخ. عندما أعلنت إذاعة الإسكندرية المحلية عن وفاة النحاس باشا -وكان بالإسكندرية حينذاك- بدأت مشاعر عديدة تعتمل داخل نفوس المصريين، وعندما وصل الجثمان إلى ميدان التحرير بالقاهرة، انشقت الأرض عن مئات الألوف من البشر الذين أحاطوا بنعشه وأخذوا يهتفون بحياة الزعيم الخالد، والوطنى الكبير، ورافع لواء الديمقراطية. أخذت الجموع تهتف: «اشك لسعد الظلم يا نحاس»، و«لا زعيم بعدك يا نحاس». كان المشهد مفاجئاً استدعاه الروائى العالمى نجيب محفوظ ضمن مشاهد روايته الراقية «الباقى من الزمن ساعة». اندهش جمال عبدالناصر ورجال الثورة وهم يرون بأعينهم هذه الجنازة المليونية، وكان السؤال المتواتر على لسان الجميع: «هو الوفد لسه عايش؟!». بعدها تم القبض على عدد من رجال ورموز حزب الوفد وأُلقى بهم فى السجون، لينتهى مشهد جنازة النحاس باشا عام 1965.
بعد هذا التاريخ بخمس سنوات مات الزعيم جمال عبدالناصر، وقد أحدث موته رجة وزلزالاً فى الوجدان الشعبى، خصوصاً أنه جاء فى لحظة فارقة فى تاريخ البلاد كنا نعد فيها العدة لاسترداد سيناء التى احتلتها إسرائيل عشية 5 يونيو 1967. تدفقت جموع المصريين من كل حدب وصوب تبكى الزعيم «حبيب الملايين»، كان أغلب المشاركين فى الجنازة من بسطاء هذا الشعب، من العمال والفلاحين الذين صنع لهم جمال عبدالناصر الكثير مما أخذه من جيوب وثروات الأغنياء. أغلب هؤلاء كانوا راضين بمعادلة الحكم الناصرى التى لا تتأخر عن إطعام الفم من أجل أن تستحى عين السياسة. لم يكن يهم هؤلاء ما تحدّث عنه المشاركون فى جنازة «النحاس» حول الحرية والديمقراطية والظلم والاستبداد السياسى وغير ذلك، بل كان يهمهم رغيف الخبز.
والسؤال: هل يعبّر مشهد الجنازتين اللتين ضمتا زعيمين أحدهما فى الغرب والآخر فى الشرق عن حالة فصام شعبى؟ هل يعانى شعبنا نوعاً من الازدواجية؟ حقيقة الأمر أننا كنا، ولم نزل وسوف نظل، منقسمين على أنفسنا، كذلك يقول تاريخنا، أيام الاحتلال الإنجليزى كان هناك مصريون يؤيدون وجود الأجانب بمصر، مقابل من يكافح ضد وجودهم. فى 25 يناير كان هناك ملايين تهتف ضد مبارك فى الشوارع، وملايين ناقمة على ما يحدث داخل البيوت، فى 30 يونيو تكرر المشهد نفسه. هذا الشعب لا يعانى من تناقض، كل ما فى الأمر أنه «كثير العدد». إحنا كتير، والكثرة لا بد أن تؤدى إلى تنوع المشارب، المهم أن نتعلم قبول الآخر المختلف معنا.