قبل ثلاث سنوات، أجرت معى قناة فضائية عربية حواراً حول وسائل «التواصل الاجتماعى»، والتداعيات السلبية الناجمة عن الإفراط فى استخدامها؛ ومن بين الأسئلة التى وجهها إلىّ المذيع: «لماذا لا تمتلك حساباً على (فيس بوك)؟»، وكانت الإجابة: «لأننى أعتقد أن مضار امتلاك هذا الحساب أكبر من فوائده».
بالفعل، لم أمتلك حساباً على «فيس بوك» حتى يومنا هذا، ولا أعتقد أننى بحاجة إلى امتلاك هذا الحساب، والأهم من ذلك أننى ما زلت عند اعتقادى بأن هذا القرار كان، وما زال، صائباً.
لقد تشاركت معكم الهواجس والأدلة التى تجعل من قرار الحذر والاقتصاد فى استخدام مواقع «التواصل الاجتماعى» النشطة عموماً، قراراً مفهوماً، أو أقرب إلى الصواب، على مدى سنوات.
فى تلك الزاوية بالذات، يمكنك مراجعة مقالاتى السابقة؛ ومنها «تدوينة ستسجنك.. وتغريدة ستطيح بأحلامك»، فى 4 مارس 2018، و«فيس بوك يجب أن يتغير»، فى 29 يناير 2018، و«بلطجة إلكترونية»، فى 15 يناير 2017، و«السوشيال ميديا وإرهاب سيناء»، فى 16 يوليو 2017.
عبر مراجعة تلك المقالات ستدرك أن ثمة مخاطر حقيقية وجمة ناتجة عن الإفراط فى استخدام تلك الوسائط، أو الانخراط فيها من دون تأهيل وحذر مناسبين؛ وهى مخاطر تتوزع على طيف عريض من التداعيات السلبية؛ مثل التزييف، وتسهيل ارتكاب الجرائم، والاكتئاب، وإضاعة الوقت، وتهشيم آليات النقاش الموضوعى، والاستلاب، وصولاً إلى اتخاذ قرار بالانتحار.
ليست هذه محاولة لاستدعاء الحكمة بأثر رجعى، ولا طريقة للبرهنة على نجاعة الرأى، إنما هى مسعى للتأكيد على أن مضار استخدام هذه الوسائط الجديدة على عالمنا أكبر من ترف تجاهلها، وأن هذه المضار يجب أن تدعونا إلى وقفة مع الذات، ومع المجتمع، للوصول إلى صيغة أنسب للتعاطى معها.
خلال الشهرين الفائتين، صدر كتابان مميزان فى مقاربتهما لمضار وسائط «التواصل الاجتماعى»؛ أولهما كتاب «عشرة أسباب لإلغاء حساباتك على مواقع (التواصل الاجتماعى) فوراً» Ten Arguments for Deleting Your Social Media Accounts Right Now، لاختصاصى الحواسيب «جارون لانييه» Jaron Lanier، وهو الكتاب الذى قامت صحيفة «الجارديان» البريطانية بتقديم عرض له، فى 30 مايو المنصرم.
يعدد «لانييه» فى كتابه الأسباب العشرة التى يرى أنها كافية لكى يتخذ كل فرد من مستخدمى هذه الوسائط قراراً بمقاطعتها؛ مُذكراً بما أصبحنا نعرفه جميعاً عن خطاياها.
من بين الأسباب التى ساقها «لانييه» فى كتابه أن تلك الوسائط تكتسب تمكنها من الإضرار بمصالحنا بمجرد استخدامنا لها، وأن هذا التمكن يزيد مع كثرة الاستخدام: «كلما استخدمناها.. مكّناها من النيل من مصالحنا». ويشير إلى أن نموذج الأعمال الذى ينطلق من «السوشيال ميديا»، ويعتمد عليها، آخذ فى الاتساع، حتى بات يسيطر على جزء معتبر من معاملاتنا الاستهلاكية والمالية، وهو أمر فى غاية الخطورة كما يرى «لانييه»، لأن ازدهار هذا النموذج «يخصم مباشرة من كرامتنا الإنسانية»، بسبب اتصاله المباشر بعاملين جوهريين؛ أولهما: التفريط فى خصوصيتنا، وثانيهما: الخضوع لتكنيكات الدعاية السمجة المستندة إلى التلاعب، وعدم احترام عقولنا. أما الكتاب الثانى، الذى صدر فى شهر يونيو الماضى، فعنوانه: «الإعلام المعادى للمجتمع: كيف تمكن (فيس بوك) من الفصل بيننا وتقويض الديمقراطية؟» Anti-Social Media: How Face Book Disconnected us and Undermines Democracy؟
وكما يظهر من عنوان الكتاب، فإنه أولاً يستخدم عبارة «سوشيال ميديا» على النحو الذى يعتقده الكاتب من أنها «أنتى سوشيال» Anti- Social، أى ضد المجتمع، وليست أسلوباً للتواصل وبناء الروابط الاجتماعية كما تشير تسميتها المفترضة.
مؤلف «الإعلام المعادى للمجتمع» سيفا فيدياناثان Siva Vidhyanathan مؤرخ ثقافى، وبروفيسور فى جامعة فرجينيا؛ ولذلك، فإن مقاربته كانت أكثر ارتباطاً بالسياق الاجتماعى والثقافى والسياسى الذى تزدهر فيه وسائط «التواصل الاجتماعى»، ويزداد تأثيرها.
يقول «فيدياناثان» إن تلك الوسائط جعلت من الخصوصية، التى تحميها الشرائع والدساتير والقوانين ومعايير حقوق الإنسان العالمية، سلعة تباع وتشترى. ويوضح كيف أن الإغراق فى استخدام حساباتنا على تلك المواقع أسهم فى الحط من شأن السياسة والسياسيين، وقوض الأساليب الديمقراطية، ملمحاً إلى أن تلك الوسائط تتحمل قدراً كبيراً من المسئولية عن صعود التيارات الفاشية، وازدهار العنصرية، والنجاحات المتتالية التى تحققها الأحزاب والحركات اليمينية فى المجتمعات التى عرفت رسوخ الديمقراطية منذ عقود.
بحسب «فيدياناثان»، فإن تلك الوسائط وفرت لنا «أسوأ منتدى لإجراء حوار سياسى»، وأنها أسهمت بقدر كبير فى إشاعة الابتذال واللغة المنحطة، عبر اعتمادها على بث الرسائل الملتهبة، التى تركز على إثارة المشاعر، بدلاً من تهيئة المجال لإدارة حوارات عقلانية، بقدر مناسب من المسئولية.
نحن نعرف أن تلك الوسائط باتت بمنزلة أسلحة تستخدمها جماعات الإرهاب والعنف، وأنها تحفل بخطاب تحريضى، ورسائل تحض على التعصب والكراهية، وأن كل الجهود التى تم بذلها من أجل الحد من تلك الأضرار لم تنجح فى القضاء عليها، أو تقليل أثرها الحاسم.
لا يقتصر الأمر فى ما يتعلق بالاستخدامات المسيئة على الجماعات الإرهابية؛ مثل «داعش» أو «القاعدة» وغيرها، ولكنه يتعدى هذا إلى الحكومات للأسف، وبعض هذه الحكومات يقع فى دول العالم الحر، أو ينتمى إلى دول استبدادية، تستخدم هذه الوسائط من أجل إشاعة أفكار وتوجهات سلبية، أو الحض على اتخاذ قرارات تمثل خطراً بالغاً على الديمقراطية، وتنال من القيم الإنسانية التى تشكل نسقاً متفقاً عليه عالمياً، فى ما يتصل بالخطاب الموجه إلى العموم.
ليست تلك هى أبلغ الأضرار التى يحذر منها الكاتبان، ومعهما الكثير من النقاد، ولكن أبلغ تلك الأضرار وأكثرها فداحة يتعلق بتوقعهما إخفاق أى محاولة لضبط هذا المجال وترويضه؛ وهو أمر يُضيّق، إلى أقصى درجة، خيارات المستخدم الرشيد.
لقد منحتنا مواقع «التواصل الاجتماعى» مزايا فريدة، خصوصاً على صعيد الإتاحة، وتسهيل التواصل، والتبادل الحر للأفكار والمعلومات، وتعزيز آليات المشاركة، لكن الاستخدام السيئ، والإفراط، وعدم حساب العواقب، والدوافع الانتهازية للشركات المالكة لتلك المواقع، أدت إلى بروز مخاطر وتهديدات لا يمكن تجاهلها.
وقفة مع «السوشيال ميديا» يمكن أن تكون عملاً جيداً ومرغوباً، والاستخدام الحذر وعدم الإفراط ضرورة.