لو كان فقه الصلح والسلام حاضراً فى عقل وقلب أمتنا لانتهى الصراع بين السنة والشيعة، وبين إيران والعرب، ولو كان حاضراً ما وقع الشباب المصرى بمعظم أطيافه فى تخوين السادات بعد كامب ديفيد.
ولو كان حاضراً لقبل تقسيم الأمم المتحدة لفلسطين فى أواخر الأربعينات قبولاً للمتاح وأفضل من حروب أضاعت فلسطين كلها.
ولو كان حياً فى قلوبنا وعقولنا لتم الصلح الحقيقى بين فتح وحماس.
ولو كان حاضراً لتوقف سيل الدماء فى أرجاء العالم العربى والإسلامى، والتأم شمل اليمنيين بمذاهبهم وأحزابهم وما قام أحدهم بالحرب بالوكالة نيابة عن قوى إقليمية، ولتوحد الليبيون بدلاً من أن يكون فى كل ناحية رئيس وميليشيا وجيش.
ولو كان حاضراً فى القلوب لحقن قادة اعتصام رابعة دماء البسطاء وقبلوا السلام وصرفوا الجموع ليلة العيد.
فقه الصلح والسلام يعنى أن تتنازل حقناً للدماء، وترضى بالقليل لتجنيب العباد والبلاد مزيداً من الشرور، وأن تهضم ذاتك وجماعتك فى الله حفظاً للأرواح وإيثاراً للسلم دون حرب مدمرة.
فقه الصلح والسلام يعنى أن ترضى بالمتاح لتعود إلى قومك حتى دون مكاسب سوى سيادة المحبة والألفة بين الناس وتجنب الحروب بدمارها وقسوتها وأحقادها.
فقه الصلح والسلام وخطابه وتربية الناس عليه وفقه الحب والتسامح ترتبط جميعها ببعضها، وأمتنا اليوم أبعد الناس عنها، عادة ما نهلل لدعاة الحرب والنزال والقصاص والثأر والكراهية ونهيل التراب على ناشرى فقه الصلح والسلام والمحبة، رغم أننا غير مؤهلين لدفع أثمان الحرب الباهظة.
لقد ساقتنى الأقدار لأكون جزءاً من تجربة رائدة فى الصلح والسلام، كنت أظن نفسى فيها أستاذاً فوجدت نفسى تلميذاً غارقاً فى حب الصلح والسلام وأهله ورواده والتعلم منهم.
عشقت عيسى بن مريم الذى هتف قائلاً «طوبى لصناع السلام»، وأحببت الرسول «عليه السلام» الذى أطلق أعظم شعار للسلام دون شروط فى الحديبية «والله لا يسألنى القوم خطة تعظم فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها»، فقد قبل كل الشروط المجحفة لقريش التى أغاظت الصحابة، قبل أن تشطب «الرحمن الرحيم» من اسم الله، وكلمة «رسول الله» التى تصفه، وقبل أن يرجع من عامه هذا ويعتمر فى عام مقبل، كل ذلك تغليباً للسلام وحقن الدماء.
كان يريد أن يعلم الكون كله أن السلام يعد «فتحاً قريباً» كما وصفه القرآن، فإن تخسر فى السلام خير لك من أن تكسب فى الحرب.
وأحببت الحسن بن على رائد السلام العظيم الذى ضحى بالخلافة حقناً للدماء فأبدله الله خيراً منها، وصلاح الدين الأيوبى الذى أجرى أكثر من تسع معاهدات مع الصليبيين وصبر عليهم طويلاً فنصره الله عليهم نصراً مؤزراً بعد أخطائهم القاتلة.
وأحببت الملك السنوسى الذى رفض أن يستدعى القاعدة البريطانية لضرب الانقلاب الذى قام به القذافى قائلاً: «ما دام الثوار ليبيين، والشعب يؤيدهم وقتها فلن أريق دماء شعبى»، وترك الحكم.
وأحببت السادات الذى تحمل ما لم تتحمله الجبال حرباً وسلاماً.
«وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» أعظم رسالة ربانية للناس جميعاً، خير للطرفين، أو خير فى الدارين، خير من الحرب والصراع، خير من الدماء والكراهية، كلها معانٍ رائعة يحتملها هذا الشعار العظيم الذى أهملناه كثيراً.
فسلام على صانعى الصلح والسلام على كل المستويات من مستوى الأسرة وحتى مستوى الدول والأمم.