«أرجو كمصريين أن نحافظ على حرصنا على عدم صدور أى لفظ مسىء للسودان أو لأى دولة أخرى.. لن نحارب أشقاءنا فى السودان.. نحن لا نتآمر على أى دولة، لا نناور ولا نقول تصريحات عكس توجهاتنا»..
هكذا صرح الرئيس المصرى فى يناير الماضى أثناء افتتاحه عدداً من المشروعات فى الفيوم.. وعقب سحب الحكومة السودانية سفيرها بمصر للتشاور..
التصريحات بلورت التوجه المصرى نحو الأزمة -التى كان يمكن أن تتصاعد بقوة- لولا أن التحرّك كان شريفاً وحكيماً كما ينبغى أن يكون.. وأتت ثماره سريعة وقوية.. فبعد بضعة أشهر من التصعيد الإعلامى والمناوشات السياسية بين الطرفين.. كان الرئيس السودانى فى القاهرة، مستقبلاً بالورود..
تتعمّد الدولة المصرية أن تتعامل مع الأزمات بشرف ندر أن يوجد.. وبرزانة تليق بحجم الوطن العريق..
لا شك أنها زيارة مهمة تلك التى قام بها الرئيس المصرى إلى الخرطوم.. زيارة يمكن أن تكون أول الطريق لتغيير نوعى جديد فى العلاقات الثنائية بين دولتى النهر الواحد.. حتى إن حاول البعض التأثير عليها!
الملاحظ أن مجهودات كبيرة تم بذلها لإنجاح هذه الزيارة.. مجهودات يمكن ملاحظتها فى الحفاوة البالغة فى استقبال الرئيس المصرى وبرنامج زيارته القصيرة.. فضلاً عن الاحتفاء غير المسبوق بقرينته..
إن التكامل بين مصر والسودان ضرورة من ضرورات الأمن القومى.. إنها الحقيقة التى تعرفها الدولة المصرية جيداً.. ويستوعبها الجانب السودانى أيضاً بكل تأكيد.. وإن كان البعض يحاول إنكارها لصالح قوى إقليمية تسعى لنفوذ غير مستحق على حساب العلاقة التاريخية بين الطرفين!
ربما كان على الشقيقة الكبرى السعى للمزيد من مشروعات التنمية الاقتصادية على أرض السودان.. والحرص على التكامل الاقتصادى والسياسى فى وقت واحد.. فأمن كلتا الدولتين يعتمد على ذلك.. وتعاون البلدين بشكل أكثر عمقاً يصب فى صالح الإقليم أكثر بكثير من نزاعات لا طائل من ورائها.. ولا مستفيد سوى من يرغب فى الضرر لكليهما معاً!
إن التاريخ يذكر لنا دور شركات المقاولات المصرية، وعلى رأسها «المقاولون العرب» فى ترسيخ قيمة مصر داخل الدغل الأفريقى أواسط القرن الماضى.. كما يذكر تأثير بعثات الأزهر العلمية بين مواطنى القارة السمراء وما زرعته فيهم من انتماء له ولوطنه بالتبعية.. فلماذا لا نستحدث تلك الوسائل؟!
أعرف أكثر من صديق من الأطباء الذين يسافرون إلى السودان شهرياً لإجراء عمليات متخصّصة.. ويصرّحون أن الطبيب المصرى له قيمته على الأراضى السمراء.. بل تنتظره قوائم من الجراحات التى يفضل أصحابها الطبيب المصرى تحديداً، فى برهان على مهارته ومولد لقوة ناعمة جديدة لا نلقى لها بالاً لسبب لا أدريه..
وصحفى مخضرم قد صرح لى من قبل بأن أهل السودان مغرمون بالدراما المصرية.. بل تكتسب تلك الدراما لدى الشعب السودانى مكانة رفيعة بين أنواع الدراما المتباينة..
لماذا لا يتم استغلال مثل هذه النوعية من التأثير؟ لماذا لا تبدأ الدولة المصرية فى خطة طويلة المدى للعودة لقلب وعقل المواطن الأسمر بطرق عصرية مناسبة؟!
إن استعادة الجنوب المصرى ضرورة أدركتها القيادة السياسية منذ وقت ليس بالقصير.. وسعت فى اتجاهها بحنكة ومهارة تُحسب لها.. بقى أن تتحرك قوى الدولة الاقتصادية وأسلحتها التنموية وقواها الناعمة، لاستعادة مكانة مصر فى نفوس الشعب السودانى الشقيق.. ولترسيخ مفهوم الوطن الواحد لدى أبناء النيل.. فلا مفر من الاعتراف بأننا نحمل مصيراً واحداً.. يجمعه نهر قامت بسببه حضاراتنا!!