منذ ثورات الربيع العربى قبل ما يقرب من ثلاثة أعوام، دخل الشرق الأوسط فى حالة تغيير كبرى، جزء منها بدا أنه تطبيق لسياسة الفوضى الخلاقة التى بشرت بها وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس، منتصف 2006، إبان العدوان الإسرائيلى على لبنان، وجزء آخر بدا وكأنه ميلاد جديد لشرق أوسط، ولكنه بيد شعوبه ومجتمعاته ونخبه الجديدة، التى فرضت نفسها على المشهد السياسى محليا وإقليميا فى آن واحد. ولفترة من الزمن تداخل الأمران، إلى أن أخذت الأمور تتجه أكثر وأكثر ناحية التفسير الثانى، أى الميلاد الجديد من رحم المنطقة ووفق إرادة شعوبها وليس من خارجها.
وما حدث فى مصر منذ 25 يناير وحتى 30 يونيو، كان يميل نسبيا إلى الشق الأول، وبعد 30 يونيو، تأكد الجانب الثانى تماما. الشاهد الأكبر على ذلك هو ما يجرى اليوم من إعادة بناء علاقة جديدة/ قديمة بين مصر الثورة الشعبية وروسيا بقيادة الرئيس بوتين، الساعية إلى ترسيخ مكانتها الدولية عبر اكتساب المزيد من مراكز التأثير والنفوذ السياسى والاستراتيجى. هنا تتلاقى الرغبتان المصرية والروسية لتعزيز مصالحهما المشتركة من جانب، وتشكيل بيئة إقليمية ذات معادلات وتحالفات مختلفة لحماية هذه المصالح الناشئة، ومع قدر من الحرص ألا تؤدى هذه التحالفات الجديدة إلى إثارة موجات من رد الفعل الأمريكى والغربى تؤثر سلبا على الحالة الجديدة الجارى بناؤها. وبعبارة أوضح بناء علاقات استراتيجية مصرية روسية ذات طابع هادئ وشامل، يتضمن المدنى والعسكرى والاقتصادى والاستراتيجى وفى الطاقة بأنواعها خاصة نقل الغاز، وبدون أن تخل جذريا بالعلاقة مع الولايات المتحدة، من حيث استمرار التواصل والتعاون فى مجالات الاهتمام المشترك بلا استفزاز أو تهوين.
فالتغيير هو سنة الحياة، فلا شىء يبقى على حاله. واستطرادا فإن النفوذ الأمريكى آخذ فى التراجع، والسطوة الأمريكية التى كانت تُعد قيدا حديديا على حرية الحركة المصرية أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه، ناهيك عن فقدان واشنطن الصدقية والمصداقية لدى الرأى العام المصرى والعربى الخليجى تحديدا، وكلاهما يعنى وفقا للرأى العام المصرى أن الولايات المتحدة ليست الشريك الذى يعتمد عليه فى أوقات التحول الصعبة ومراحل التهديد الكبرى التى تختبر فيها معادن الرجال والزعامات. وبينما تتراجع ثقة المصريين فى الشراكة مع الولايات المتحدة، يثور فى داخل أمريكا تفسيران؛ أولهما أن هناك دعوات كثيرة داخل البيت الأبيض والحزبين الجمهورى والديمقراطى بأن تقوم واشنطن بتغيير سلوكها السياسى والاستراتيجى وأن تتخفف من الأعباء الاقتصادية الهائلة التى تبذلها فى شئون الشرق الأوسط، خاصة أن الإنتاج النفطى الأمريكى بعد الاكتشافات الكبيرة التى تحققت فى الأعوام الثلاثة الماضية كفيل بأن يحقق لأمريكا الانسحاب من الشرق الأوسط ككل، وعدم الاعتماد على النفط الخليجى بكل ما لذلك من أعباء، فضلا عن أن الانهيارات التى حدثت فى الجيوش العربية المختلفة المحيطة بإسرائيل كسوريا والعراق، وقلة الحيلة التى تميز كلا من الأردن ولبنان، والانشغال المصرى العسكرى والأمنى ضد جماعات الإرهاب فى سيناء، كفيل بأن يضمن أمن إسرائيل لأربعة عقود على الأقل دون التعرض لخطر التهديد العسكرى الإقليمى.
أما التفسير الثانى فينتهى إلى أن إدارة أوباما وإن أخفقت فى تعزيز واستمرارية معدلات النفوذ الأمريكى فى المنطقة، ودخلت فى دور المجابهة ولو فى حدود دنيا مع اثنين من أبرز حلفائها التاريخيين وهما مصر والسعودية، فهو أمر مؤقت ولن يستمر بعد انتهاء ولاية الرئيس أوباما، فالمنطقة ككل تمثل رصيدا استراتيجيا للولايات المتحدة حتى ولو استغنت تماما عن نفط الخليج، وتمثل أحد روافد المكانة الأمريكية عالميا. وأيا كان التفسير الأكثر دقة وصحة، فقد تبلورت بالفعل فرصة ذهبية ومساحة إضافية لإثراء الاستقلالية المصرية فى المجال الدولى والإقليمى، ولولا 30 يونيو لما كانت مصر تتمتع الآن بهذه الفرصة وتحولها إلى واقع.
الاستقلالية المصرية من شأنها أن تغير الكثير من المعادلات الإقليمية، وكلما اتجهت الحالة المصرية، عبر إنجاز مستحقات خطة الطريق فى مواعيدها المعلنة بكل دقة وشفافية، أصبحت مصر بمثابة النموذج القابل للاستنساخ، وما نشهده من عمليات مراجعة وضغوط شعبية فى تونس وانصياع الترويكا الحاكمة للمطالب الشعبية الرافضة هيمنة التيار الإخوانى التونسى ممثلا فى حزب النهضة وابتزاز التيارات السلفية المسلحة، هو نتاج طبيعى لحالة النفاذية التى تميز العرب عن غيرهم. وكذلك صحوة ليبيا النسبية، كما تعبر عنها جهود رئيس الوزراء على زيدان وتحركاته ضد المسلحين والعابثين بأمن البلاد، يمكن تفسيرها جزئيا فى ضوء بريق النموذج المصرى المتصاعد والذى يمثله أداء المؤسسة العسكرية الصلب فى مواجهة الإرهابيين والمسلحين والعابثين، وكذلك الأداء الإيجابى للشرطة المصرية فى مواجهة الانفلات الأمنى وظواهر البلطجة. وهما ما يمثلان درسا بليغا يجسد أن دور الدولة فى حماية مواطنيها ومواردها الذاتية مرهون بالمؤسسات القوية وليست بالميليشيات أو المجموعات المسلحة أو الرئاسات الفاشلة.
مصر كنموذج يعيد بناء نفسه، بما يتلاءم مع طموحات الثورة ومبادئها الرئيسية، سوف يصل إلى قمة تأثيره حين يمر الدستور وتعقد الانتخابات البرلمانية وتتشكل خريطة سياسية مجتمعية تعكس قوى التغيير الحقيقية، ويتم انتخاب الرئيس المصرى الجديد. وعندها سنكون جميعا أمام نموذج ملموس له مقدمة وله مسار وسياق ونتائج محددة مدعومة بتأييد الشرائح المختلفة للشعب. وعندها أيضاً سنكون أمام مصر مختلفة بعيدة عن الضبابية واللا يقين اللذين يسودان قطاعات عديدة من المصريين والعرب على السواء. وحين يصبح لمصر نموذجها الخاص فى التحول، سوف تصمت دروس التوعية السياسية الفارغة التى تبرع فى تكرارها بلا ملل دوائر أمريكية وأوروبية، وتسقط معها كل عمليات التوجيه والابتزاز المعنوى الساعى إلى إحباط المصريين ومعاقبتهم لأنهم ثاروا على استعلاء وغباء بعض ذوى القربى مدعومين بأوهام السطوة الأمريكية والتدخلات التركية والقطرية المريضة.
بناء نموذج مصرى فى التحول الديمقراطى لن يكون نجاحا مصريا وحسب بالمعنى السياسى المباشر، ولكنه سيفتح آفاق التغيير السلمى أمام العديد من شعوب المنطقة، ولن يصبح الشرق الأوسط أسير النموذجين التركى والإيرانى كما هو حال اللحظة الراهنة. وكلما نجح المصريون وأكدوا نموذجهم الديمقراطى سياسيا والمحقق للعدالة الاجتماعية اقتصاديا، أصبح الشرق الأوسط كإقليم فرعى فى العالم المعاصر أكثر تنافسية، وأكثر إتاحة للفرص الكبرى. والمهم أن يتمسك المصريون بإنجاح نموذجهم الذاتى مهما كانت العراقيل.