المكتب: جدران مزينة بصوره وأفيشات أفلامه وجوائزه وتكريماته فى المحافل الدولية
«شاهين» منهمكاً فى العمل بمكتبه الصغير
بمجرد أن تطأ قدماك محرابه المقدس، تتلمس ذكرياته الجميلة فما زالت البناية الضخمة تحمل اسمه، هى «شركة أفلام مصر العالمية.. يوسف شاهين وشركاه»، أو كما يعرفها كبار المخرجين والسينمائيين بـ«35 شارع شامبليون»، العديد من حراسها يتباهى بمعاصرته ولكن آخرهم لم يعاصره سوى فى عامه الأخير، درجات قليلة تفصل الواقف فى البهو عن المصعد الكهربائى الخشبى بطرازه المميز الذى يعود إلى ستينات القرن الماضى. يمتثل المصعد لأمر مسبق على لوحته الإلكترونية الدخيلة على تكوينه العتيق، ويتوقف فى الطابق الثالث، ينفتح الباب مصدراً صريراً ينبئ الكثير عن علامات الزمن التى نالت منه، ينجذب نظرك تلقائياً للديك الفرنسى الذهبى الواقف بشموخ، بجانب لافتة حروفها منسقة «أفلام مصر العالمية.. يوسف شاهين وشركاه»، الشركة التى يعود تاريخها إلى 1972، عندما قرر صاحبها أن يخوض غمار السينما بجرأة كبيرة.
خطوة واحدة تفصلك عن بعد آخر بعيد عن عالمك، بمجرد أن تضع كفك على المقبض النحاسى للباب الأبيض الزجاجى، البوابة سحرية لعالم رسم «جو» مفرداته بعناية شديدة، هنا كان وقع خطواته محفوراً فى الأرض، كان صوته يسرى فى الوجود، إبداعاته على الأوراق البيضاء تحولت إلى جزء من ذاكرة وطن. هذا المكان الملىء بالسحر لم يكن فى حقيقة الأمر سوى «شقة» تم تقسيمها إلى مكاتب صغيرة أقرب إلى خلية النحل يتحرك فيها العاملون بحيوية شديدة، فلا يتوقف رنين الهاتف ولا تهدأ الحركة المستمرة، ممر ضيق يكشف عن غرفة زجاجية متصلة بغرف أخرى مخصصة للسكرتيرة، وفى مقابلها حائط عريض مطلى باللون الأزرق لم تمسه عوامل الزمن قط، يحمل أفيشات الأفلام بالعربية والفرنسية، تتوسطه صورة يعود تاريخها إلى 1997، صاحبها يرتدى بذلة «سموكن»، تليق بعريس تلك الليلة التى شهدت عرض فيلمه «المصير»، الذى حصل على جائزة اليوبيل الذهبى لمهرجان كان السينمائى فى دورته الخمسين.
سكرتيرته: شخصية متواضعة فوق الوصف.. وكان ينادينى بـ«دقدق» عندما يريد منى إنجاز مهمة محددة.. ويوم وفاته كان الأصعب.. والدنيا تغيرت تماماً بالنسبة لنا بعده
تتشابك الأيدى وتتلاحم الأكتاف، فى لحظة الإعلان عن فوز «شاهين» بجائزة المهرجان العالمى «كان»، وهنا يتوقف الزمن فى تلك الصورة للأبد على الجدار الأزرق، الذى كشف أحد العاملين فى الشركة سره: «اختار يوسف شاهين هذا اللون، وعند كل تجديد يتم طلاؤه بنفس اللون دون تغيير حتى بعد وفاته». وفى ذات الممر الضيق، توجد استراحة صغيرة تضم بعض المقاعد الخشبية العريضة، أشبه بعالم مزين بالطراز العربى، وتعلو تلك المقاعد صورة «قناوى» بنظرات عينيه المضطربة المذعورة وهو يقبض على عنق «هنومة» فى مشهد من رائعة «باب الحديد»، وفى نهاية الرحلة تجد نفسك فى مواجهة باب خشب أرابيسك، تملأ فراغاته قطع زجاج منقوشة، هذا المعبد السينمائى كان يقطنه «جو» على مدار 36 عاماً.
فتحنا باب غرفته الصغيرة، فإذا شعاع ضوء شمس يوليو القوى يغمر جنباته، ولكن بالطبع لن ترى «جو» جالساً على مكتبه الخشبى المنمق، مرت عشرة أعوام على رحيله، وعلى الرغم من هذا الفراق الطويل، تشعر بطيفه يغمر الوجود فى صوره المعلقة فى أنحاء تلك الغرفة المليئة بالسيناريوهات، هنا ما زال شاباً ينظر إلى المستقبل والعدسة بتحدٍ، وهنا المخضرم حاضناً الكاميرا كأنهما كائن واحد، تتلمس روحه فى أفيشات أفلامه التى وصل بها إلى العالمية، وصارت معه «حدوتة مصرية» تروى بعد ما أجاد كتابة تفاصيلها، شهادة يعلوها شعار مهرجان كان، تحمل بخط فرنسى منمق تحية إلى «الأستاذ»، بعرض النسخة المرممة من فيلم «المصير» ضمن فعاليات دورته الـ71.
الانتقال إلى مقر آخر لم يكن فكرة مطروحة أمام «جابى» و«ماريان»، ابنى شقيقة المخرج الراحل، بعدما ضربت جذورهما فى عمق هذا المكان.. «قد نكون تناقشنا فى هذا الأمر لأن نشاطنا زاد بشكل ملحوظ، وكنا فى حاجة إلى مساحة أكبر، ولكننا لم نستطع أخذ قرار الخروج من هذا المكان»، هكذا تحدث جابى خورى عن أسباب مغادرته وشركاه لمقرهم القديم، مؤكداً أنهم مرتبطون بالمكان وحريصون على مقتنياته: «عندما قمنا بتجديد هذا المقر لم تمتد يد نحوها، حتى الكرسى الأحمر الذى كان يفضل الأستاذ الجلوس عليه ما زال موجوداً، حتى الألوان الموجودة هنا لم نغيرها».
رغبة «جو» فى وجود أطفال لم تكن أمراً مطروحاً للنقاش فى عائلته، فهذا الأمر كان بمثابة باب شخصى لم يجرؤ أحد على طرقه ليعلم حقيقة الموجود خلفه، ولكن حياته كانت ببساطة تتلخص فى عمله، وعلاقته بمن حوله يحددها مدى علاقتهم بعمله، جانب من حياة «شاهين» نوه إليه «جابى»، ليعاود حديثه: «بالطبع العائلة كانت مهمة لديه، كانت تجمعنا علاقة جيدة به، ولكنى لم أعرفه بشكل حقيقى إلا عندما عملنا معاً، وأصبحت العلاقة قائمة على العمل بدرجة كبيرة، لأن عمله كان حتى آخر وقت هو الأهم فى حياته».
ابن شقيقته: حافظنا على مقتنياته ولم تمتد إليها يد.. وكان إحساسه بالموسيقى مرهفاً رغم ضعف سمعه وسألته فى كواليس «المهاجر».. «متى تشعر بالرضا عن مقطوعة موسيقية؟».. فأجاب: «لما شعر إيدى يقف»
ملامح وجهه تظل على وتيرة واحدة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالأشياء التى تعلمها من «الأستاذ»، يغوص «خورى» فى ذكرياته ويكشف أن حماس «شاهين» للعمل وتفانيه فيه كان ملهماً بدرجة كبيرة، حتى مع تقدمه فى السن كانت تزداد إرادته، وهو الأمر الذى أكد أنه لم يره مسبقاً، قائلاً: «أثناء العمل على فيلم (هى فوضى) كانت ظروفه الصحية تؤكد أنه لن يستطيع استكماله، فلم يكن قادراً على الوقوف، والأمر كان فى منتهى الصعوبة، ووجدته يدخل من الباب أمامى يقول لى (أنا عندى فكرة فيلمى اللى جاى)»، فالسينما أحبت شاهين بقدر حبه لها، وكنت محظوظاً بمعرفتى للخطوات التى كان يريد سلكها منذ بداياته الأولى».
الصدق كان العامل الرئيسى فى أعمال يوسف شاهين، من وجهة نظر «جابى»: «كان بعيداً عن اللف والدوران، الإنسان قد يتغير ولكن المواقف والمشاعر لا تتغير كونها حقيقية، فهو الذى جعل أعماله تعيش كل تلك الفترة، جمل الأفلام ما زالت تتردد حتى الآن وذلك يعود إلى أنه كان صادقاً مع نفسه وفيما كان يريد تقديمه، لذلك عاشت أعماله لوقت أطول»، تكرار «شاهين» ليس أمراً مطروحاً، ولكنى مؤمن بوجود مخرجين موهوبين يسلكون طرقاً مختلفة، تمكنهم من تقديم أعمال مهمة».
بحسب «جابى»: «المزيكا كانت جزءاً من حياته، عندما كان يكتب مشهداً جيداً كان يرقص ويغنى فى البيت»، وأتذكر موقفاً عند تسجيل موسيقى فيلم «المهاجر»، حيث كان هناك 10 عازفين للكمان، ولكنه لم يكن سعيداً بالألحان، وكان يشعر بشىء ناقص، ووقتها مهندس المكساج اقترح عليه مضاعفة العزف إلى 20 آلة كمان بشكل أوتوماتيكى، لكنه رفض قائلاً: «لما مفيش إحساس فى العشرة مش هيكون موجود فى العشرين».
ويكمل حديثه قائلاً: «شاهين طلب عازف كمان بخلاف العشرة الموجودين، وهو ما أحدث حالة من الارتباك لدينا، فحينها كنا فى الواحدة بعد منتصف الليل، ولم نجد مكاناً نبحث فيه عن عازفين إلا فى الملاهى الليلية، وبالفعل تم عزف موسيقى الفيلم بواسطة 11 عازفاً، وأبدى «شاهين» رضاه عما صارت إليه الأمور، وهنا سألته: كيف تعلم أنك وصلت لما تريده؟، فأجاب: لما شعر إيدى يقف، فهو يملك ميزاناً حساساً للموسيقى ينم عن عمق إحساسه بها».
واقعة أخرى يرويها «جابى» عن خاله: «فى إحدى المرات كنا فى فرنسا، حيث استعنا بخبير للعمل على مكساج أحد الأفلام، ووقتها كان يعانى «جو» من ضعف السمع ويضع سماعة بداخل أذنه، وأثناء التسجيل علق أنه لا يسمع آلة الأوبوا الموجودة فى «التراك» بشكل جيد، واندهش المهندس من ذلك، حيث لم يكن يسمعها من الأساس، وبالفعل وجد أن كلام الأستاذ صحيح، ولم يجد سوى أن يسأله «انت رجل أصم كيف تسمع ذلك؟» ليجيب: «الجسم به فتحات كثيرة يسمع بها الإنسان».
«كنت خائفة وشعرت بارتياح عندما علمت أنه غير موجود، حيث كان يصور فيلم «سكوت هنصور» فى الإسكندرية، هكذا تحدثت «شيماء»، سكرتيرة المخرج الراحل، عن ذكريات اللقاء الأول الذى جمعها بالأستاذ فى مقر الشركة، مضيفة: «بعد انتهاء التصوير صدمت، وحينما رأيته يصافح الجميع ويداعبهم، زالت الرهبة التى كانت بداخلى تجاهه على الإطلاق».
ومنذ ذلك اليوم لم تفارق «شيماء» غرفتها الزجاجية، فطبيعة عملها كانت تجعلها فى مواجهة «الأستاذ» طوال الوقت، الأمر الذى أخافها وجعلها تفكر فى التراجع أكثر من مرة فى بادئ الأمر، لدرجة أنها فوتت موعد مقابلة العمل الأولى وحددت آخر: «شخصية متواضعة فوق الوصف»، تقولها بابتسامة صافية، نافية ما يذاع حول غضبه الدائم أو انفعالاته: «فى بعض الأحيان كان يجلس على الكرسى المقابل لى ويداعب الجالسين، وعندما كان يريد منى أداء مهمة محددة كان ينادينى بـ«دقدق». وعندما تذكرت يوم وفاته تغيرت ملامح وجهها، قائلة: «يوم صعب تغيرت الدنيا من بعده».
جانب من الذكريات توثقها الصور على أحد جدران المكتب
محررة «الوطن» مع المنتج جابى خورى
أفيش فيلم «المصير» فى «كان»
ماكينة المونتاج التى كان يعمل عليها بنفسه