كان الفاسد فيما مضى خجولاً، يستحى أن يخرج على الناس بوجهه القبيح، يتلفت فى الطرقات وفى المكاتب الحكومية على استحياء، يدارى «سحنته» عن الناس حياء وكسوفاً، فكان يشعر برداءته ودمامته، ويعرف قلة قيمته وهوانه على الناس، محتشماً، يمد يده من وراء حجاب، يتلفت يميناً ويساراً إذا همت يده بتسلم الرشوة أو المعلوم أو الدخان أو الإكرامية، عينه لا تقوى على النظر إليك، وإذا خطفتها كانت خجلى ومضطربة من هول ما يقوم به، ومن قذارة ونجاسة ما ترتكبته يداه، ما سر هذا الاحتشام وهذا الخزى وهذا الكسوف؟ وللإجابة وقتها، لكن الفاسد أصبح له يدان يمسك بهما، ورجلان يسعى بهما، وشفتان يطلب ويفاصل بهما، وعرف وقانون يحكم قبيلة الفاسدين، خاصمت حمرة الخجل وجنتيه، وأصبح عارى الوجه والستر، مكشوفاً عنه الحجاب فيراه الناس، ولا يبذلون فى هذا جهداً، يعلن عن نفسه صراحة ويعرى عنها دون خجل أو حياء، كاشفاً عن عاره وعورته وسوءته ويسير بين القوم فى خيلاء، مزهواً بما كان يوماً ممتهناً ومنحطاً، فخوراً بما كان يوماً وضيعاً وحقيراً، يطلبها على «عينك يا تاجر» وكأنها «ثمن لبضاعة» أو مقابل جهد أو استشارة أو مشورة، وإذا تنازل عن جزء منها، تأفف وتذمر، وكأنه باعها بثمنها دون مكسب، أو وقف على باب عيادته يطلب الكشف دون مقابل، أو كانت الست أمه قد «أورثتها له أو أممتها ليمينه»، والله أعرف صديقاً أثق فيه، يقوم بإنشاء مستشفى، طلبت منه مهندسة رشوة ببجاحة «ووش مكشوف» فلما هددها، تحدته أن تتركه يصورها بالصوت والصورة وقت تسلمها الرشوة، تعتمد على سندها وضهرها، أقوى من كل الأجهزة الرقابية، التى لا تهتم بهم ولا تعبأ بمراقبتهم «وقعت فى أيديهم يوماً آخر» وفيما قالته إن المبلغ ليس لها بمفردها، وأعادت على مسامعه عدة مرات، أسماء ومبالغ من يشاركها ويقاسمها، حتى ظن صاحبنا أن المحافظة كلها تشاركها الرشوة، قلت له: امرأة ومهندسة ولا تخجل ولا تستحى؟ قال لا فرق بين «البجاحتين»، وإن كان الفارق فى النوع فقط، تذكرت شبابيك إدارات المرور معظمها من النساء!! ألم تجرب يوماً استياء فاسد من قلة ما تقدمه له؟ أو غضبه وضجره، ويصدمك بما يقول لك: «والله يا أستاذ قليل وماينفعش»!! وكأنه «ربى عجل أو خروف» وباعه أقل من التكلفة وخسر فيه، أو زرعها «فراولة طلعت خيار». ونستكمل.. ويتقدم الفاسد الصفوف فى المناسبات الرسمية، ويتسارع الناس لدعوته فى الاحتفالات والمحافل، ويتصدر مجالس العزاء والمصالحات والمناسبات، ويفسحون له الطريق فيتقدمهم، ويوسعون له مجالسهم فيترأسهم، ويستغيثون به فيغيثهم، ويستجيرون به فيجيرهم، ويتحاكمون إليه فيحكم فيما شجر بينهم، ويفتحون له الأبواب فيدخل «بحماره» فيرحبون بالحمار قبل وصوله، حتى الناس لم تعد تخجل أن يمثلهم فاسد أو ينوب عنهم ضال، أو يكون يوماً منحل قائماً عليهم، أو يحكم بينهم من كان يوماً مرتشياً، وكانت يده يوماً السفلى تقبل من الناس ما يبيع به شرفه وأمانته، وكأن الشرفاء لا يملأون العين، وهذه الحقيقة فالشريف الفقير لا يملأ العين، ويملأها هؤلاء «ويسدون عين الشمس»، وهو غير عابئ بما سيقول الناس عنه يوماً، وما يراه أولاده فيه من العبرة ومن الحكمة والقدوة، ما دام قد اشترى من الناس ما يجمل تاريخه، وما يكتبه عن نفسه، وما ينسخه الناس عنه بأمواله، وما ترك لأولاده من الأموال والضياع ما ينسيهم مثالبه وعيوبه، وما كان سيخزيهم أمام الناس، فالناس لم تعد ترى فى الفساد خزياً أو عاراً، أو تخجل من الفاسد إذا أقبل عليهم، وكانوا من قبل عنه منصرفين، ويدارون أنفسهم منه، أو يشيحون بوجوههم عنه، يقابلونه بالترحاب ويعانقونه بالمودة وكأنها بعد طول غياب، ما هؤلاء القوم الذين يرفعون هؤلاء إلى مصاف الشرفاء؟ يسمعون لهم حين لا يتكلمون، ويمجدونهم وهم لا يستحقون!!. ونستكمل، يخرج زكاته بمقدارها ويزيد، ويسارع فى الصدقات والتبرعات والكفالات، ويحج مرة ويعتمر مرتين من سحت ماله أو رشوة من الغير، يعلى بنيانه دون خوف من سؤال، ويزيد فى البنوك من أرصدته وشركاته دون إجابة من أين له هذا؟ ويبارك له الناس ويدعون له بطول العمر، وسعة فى الرزق من مالهم... الحرام.
ما هو سر هذه البجاحة والوقاحة والدناءة؟ ولماذا لبس هؤلاء الناس لباس الفساد ولا يجدون فيه حرجاً؟ ويكشفون عن رذيلتهم دون احتشام؟ من هذا الذى أعطى للفاسد صك النزاهة والقبول، وأودعه ودائع الشرفاء؟ وألبسه لباس العز والرضا؟ من هذا الذى تقدم به الصفوف الأولى وقدمه بقدمه اليسرى على أى من الشرفاء؟ وقبله أخاً وصديقاً وزوجاً؟ من هذا الذى ألبسنا لباس الزيف حتى تقدم هؤلاء صفوفنا ومجالسنا واعتلوا منصات القول والكلام، وخرج من الصفوف الأعز والأصدق والأشرف؟؟ نحن كل هؤلاء. حكاماً ومحكومين، فهو اجتراء على الشعب وعلى النظام وعلى القانون وعلى الحاكم والمحكوم.