خير.. اللهم اجعله خيراً.. منذ أيام قلائل هل علينا الإعلام المرئى والمسموع والمقروء بسيل عارم من الاحتفالات بالذكرى السادسة والستين لثورة يوليو.. ولكنه لم يكن كغيره من السنوات السابقة، كان إعلاماً موجهاً صريحاً يعود بنا خمسين عاماً للخلف رغم الطنطنة والهتاف لحرية الصحافة والإعلام.. وتعددت الكتابات حول هؤلاء الخونة عديمى العقول الذين يروجون لعصر الملكية ويتباكون على أيامها رغم أنها كانت مزيفة وظالمة، والمصريون كانوا فقراء حفاة عبيداً أذلاء بلا عزة ولا كرامة ولا إنسانية.. تأكلهم الأمراض وتقتلهم الأوبئة.. والحقيقة تعجبت من هذه التهمة وأى ترويج ممكن لبضاعة غير موجودة فى الأساس!!.. وتوالى رجال التاريخ المسيس فى التعظيم والتضخيم والإجلال والتقديس فى عبدالناصر، وقالوا على يديه ولدت مصر الحديثة التى قاربت على أيامه عنان السماء.. بل وتمادى المداحون إلى أن عبدالناصر كان أهم داعم للديمقراطية، بالرغم وعلى حد معرفتى أنه فى أول قرار ثورى ألغى دستور الأمة «1923» وحل الأحزاب الفاسدة التى تتكالب على الحكم.. وعندما كبرت عرفت أن الأحزاب وظيفتها البحث عن الحكم وتداول السلطة.. ما علينا.. لا مانع عندى مطلقاً من مشاهدة الزفة ومتابعة وقراءة الهيصة فهو شىء مسلٍ جداً اعتدناه، ولكن للأسف هذا الهتاف الحنجورى العالى النبرة بلا منطق ولا علم تضيع معه الحقائق ويتوه معه التقييم الحقيقى للحدث والتاريخ وتقع بسببه الشعوب والحكومات فى نفس أخطاء الماضى التى صنع منها الإعلام أمجاداً فيضيع الطريق ويغيب الحق.
أنا شخصياً من جيل يوليو.. عشت مرحلة الإعلام الموجه والتعليم الموجه وعانيت غياب العقل والمعرفة حتى صباح 5 يونيو 1967.. وظللنا على انغلاق العقل وقلنا بلا تفكير إن الهزيمة لم تكن خطأ عبدالناصر، فهو معصوم من الخطأ ولكنها مؤامرة دولية عليه وعلى مصر، وإنه الزعيم الأوحد والبطل الأوحد ولا خلاف عليه حتى وهو مهزوم.. وعشنا الوهم بأن عبدالناصر أنظف من جاءت به مصر ولكن من حوله ليسوا كذلك وكأن من اختار رجاله نحن وليس هو.. وبعد هذا العمر والقراءة والمعرفة والاستنارة الحرة البعيدة عن الانسياق الإعلامى اكتشفنا أننا خدعنا.. اكتشفنا أننا شعب ذو عزة وكرامة من قبل أن يولد عبدالناصر.. وأننا نعرف معنى الحرية من أيام دخول الفرس إلى مصر وأننا أبداً لم نكن أذلاء مطأطئ الرؤوس على امتداد تاريخنا حتى يعلمنا عبدالناصر العزة والكرامة.. اكتشفنا بعد مضى العمر أن السياسيين الرجعيين أعوان الاستعمار والرأسمالية كان منهم زعامات وطنية عظيمة تقدس الدستور وتتمسك بالحرية والديمقراطية.. وقد حوكموا بتهمة هلامية تدعى الفساد السياسى، ومن يقرأ هذه المحاكمات سوف يضحك من السذاجة وانعدام القانون ثم يبكى على الوطن ورموزه العظيمة الشريفة التى نالت أكبر قدر من التشويه وتلطيخ السمعة جزاء على وطنيتهم وكفاحهم الطويل، ثم يتم إلغاء الأحزاب بحجة أنها فاسدة لتضرب الديمقراطية بأول سهم فى قلبها وتبدأ مصر أول المشوار إلى الحكم الشمولى الفردى الباطش.. اكتشفنا أن الذى حررنا من الذل والطغيان والاستعباد أعدم فى أغسطس 1952، أى بعد شهر واحد من الثورة المجيدة، اثنين من شباب عمال مصنع الغزل بكفر الدوار لأنهما قاما بإضراب.. حوكما فى ساعات، وكان إعدام خميس والبقرى الشابين اللذين لم يتجاوزا الثلاثين واللذين تركا خلفهما زوجتين وأطفالاً هو ذبح القطة لمن تسول له نفسه أن يتظاهر أو يتزعم إضراباً.. وأدت هذه المحكمة الغرض على خير وجه، فقد خاف غالبية الشعب وآثر الصمت والسلامة والبعض الآخر آثر السلامة والنفاق والسير فى ذيل النظام.
اكتشفنا بعد سنوات من عدم التصديق أن المعتقلات كانت حقيقية، وأن هناك من عذب ومن قتل قبل دخول الزنزانة بضرب العصا.. اكتشفنا أننا عندما غنينا فى 1956 وأقنعنا أنفسنا بأننا هزمنا ثلاث دول.. كنا فى الأصل مهزومين وأن الطيران المصرى كله ضُرب على الأرض، وأن الجيش انسحب غرباً بعد أن عبر شرقاً بعد أن كاد يقع فى حصار بين قوات برية إسرائيلية وإنزال بحرى فرنسى إنجليزى فى بورسعيد، وأن المقاومة الشعبية العظيمة لكل المصريين فى بورسعيد وخط القناة هى من تسببت فى الإنذار الأمريكى والسوفيتى ثم الانسحاب.. ولأننا صدقنا وصفقنا وهللنا وقعنا فى نفس الخطأ بعد هذا التاريخ بأحد عشر عاماً فى 1967 بل أشد منه قسوة ومرارة، حتى مجانية التعليم كذبوها وقالوا بل فعلها عبدالناصر.. مع أن القوانين قابعة فى أرشيف البرلمان المصرى.. مجانية التعليم الابتدائى عام 1942 ومجانية التعليم الثانوى فى يناير 1950 والقانونان فى وزارة المعارف بقيادة طه حسين.. زايد عبدالناصر بعد ذلك فصدر قرار التعليم الجامعى المجانى الذى أوصلنا الآن لتعليم جامعى حكومى قليل وجامعى خاص كثير، والمستوى فى الاثنين يحتاج الكثير من الجهد ليعود مثلما كان قبل الثورة المجيدة.
الحقائق كثيرة والحكايات أكثر واللغو متواصل وليس هذا هو المهم.. المهم متى نفيق ونعرف كيف نقيّم الحكام ونكتب التاريخ.. كيف نتخلص من تأليه الحاكم منصفاً كان أو خطاءً.. متى نعى الدرس جيداً لنتجنب الهزائم.. الحقيقة الواضحة تقول إن الأحرار تسلموا خريطة مصر التى تمتد إلى دارفور وكردفان جنوباً وغزة شمالاً تحت الإدارة المصرية وإن عبدالناصر تركها مصر فقط وبلا سيناء كلها، والحقيقة أن أنور السادات هو البطل الذى حرر الأرض وأعاد سيناء.. وإن كان أحد المؤرخين الأجلاء قال عنه إن اختياره كان أحد أهم أخطاء عبدالناصر..!
هكذا ينقلب الأسود أبيض والأبيض أسود، ويتوه الشباب أكثر بعد أن تاه من المناهج الساذجة المنفرة، ليأتى إعلام 2018 ليعلى راية الهتاف الخاوى بلا رؤية ولا منطق.. أرجوكم ارحموا مصر من الضلال.