البرنسيسة، هى الأميرة فاطمة ابنة الخديو إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد على الكبير التى ذكرها الرئيس عبدالفتاح السيسى بخير خلال مؤتمر الشباب فى نسخته السادسة. تبرعت جميلة أسرة محمد على بستة أفدنة ليتم بناء الجامعة عليها فى موقعها الحالى، وقدمت مجوهراتها الشخصية الثمينة راضيةً لتمويل الإنشاءات. ومن يقلّب فى بعض الكتب التى أرَّخت لرحلة جامعة القاهرة (110 أعوام) بإمكانه أن يشاهد مجموعة كاملة من الصور لهذه المجوهرات. العطاءات لا تُعرف إلا فى سياقها، وقد نشأت جامعة القاهرة عام 1908 فى سياق متعثر بسبب ضعف التبرعات إلى حد اندفع معه بعض الشعراء إلى تدبيج القصائد التى تدعو المصريين إلى التبرع حتى يتحقق هذا الحلم.
شاعر النيل حافظ إبراهيم هو الشاعر الأبرز الذى اهتم بإنتاج القصائد الداعية إلى التبرع للجامعة، ومن بينها القصيدة التى تبدأ بـ«حياكم الله أحيوا العلم والأدبا.. إن تنشروا العلم ينشر فيكم العربا.. ولا حياة لكم إلا بجامعة.. تكون أُماً للبلاد وأبا». فى هذه القصيدة رسم شاعر النيل صورة لمن يبخل بماله عن التبرع للجامعة شبهه فيها بصاحب الكلب الذى ظل يبكى عندما رأى كلبه يوشك على الهلاك، فأبصر البعض حاله فرقوا له، وسألوه «ما خطب ذا الكلب؟».. فردّ عليهم: «الجوع ينهبه منى وينشب فيه الناب مغتصباً»، لكنهم لاحظوا أن الرجل يبكى وفى يمناه أرغفة «لو شامها جائع من فرسخ وثبا». فقالوا له ها هو الدواء فى يدك فأطعم الكلب قبل أن يهلكه الجوع. فردّ عليهم قائلاً: ألا يكفى بكائى وانتحابى عليه؟!. إنها «حنية بلا إطعام».
ذهبت الجدة «فاطمة» والجد «حافظ» وبقى الأحفاد!. لم يكن للأميرة فاطمة إسماعيل أية أدوار سياسية، بل شغلت نفسها بالعلم والثقافة، وقدمت كل ما لديها لدعمهما، فمن يؤمن بشىء يعطيه. والشاعر حافظ إبراهيم مثقف كبير، يعرف أهمية أن يكون له دور فى دعم وبناء مجتمعه، وتسخير فنه لخدمة الأهداف الوطنية الكبرى. فما حال الأحفاد اليوم؟. رجال أعمال كثيرون تخرجوا فى جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات (ربما كان بعضهم من ضمن الحضور فى المؤتمر الأخير) ماذا أعطوا لوطنهم؟. أفهم ما يدور فى ذهنك الآن، إنك ترى أن السؤال الأوجه: ماذا أخذوا من وطنهم؟. بعضهم أخذ بالحق وآخرون نهبوا بالباطل. تعالَ بعد ذلك إلى المثقفين من مفكرين وإعلاميين وفنانين واسأل: ماذا أعطى هؤلاء لجامعاتهم التى تخرجوا فيها؟.. وماذا أعطوا للبسطاء الذين صنعوا نجوميتهم؟. ربما يكون بعضهم قد أعطى، لكن الغالبية تتعامل بمنطق «صاحب الكلب» الذى وصفه الشاعر حافظ إبراهيم. تجد أحدهم يذرف الدموع التى تملأ «حفان» على حال البسطاء، ليس بمنطق الدفاع عن حقوقهم، بل بأسلوب المتاجرة الهادفة إلى بناء الشعبية واستجلاب الإعجاب. العودة إلى التاريخ وأحداثه تكشف لنا حجم التحول الذى أصاب ثقافة وأخلاقيات المصريين فى اللحظة الراهنة، وهى لحظة توارى فيها العلم فى وقت تقدم فيه المال، وتراجع معها العطاء لحساب استثمار أوجاع الآخرين.