قادتنى قدماى إلى بيتنا الكبير بالصدفة، فى وقت كنت أشعر فيه بالإجهاد وبعض الألم، البيت الذى شاهد طفولتى ومشاعر السنوات الأولى من حياتى التى لم تكن تعرف التلون ولا إخفاء ما فى القلوب. وعندما وطئت قدماى المكان تذكرت على الفور ملمس وجه جدتى ويديها فوق رأسى وهى تتمتم بالآيات المنجيات لتحفظنى من العين والحسد، وأصابعها تتخلل شعرى تصففه بحب وتدليل وعناية فقدتها بعد رحيلها، وحكايات ما قبل النوم، والياسمين ورائحته تملأ الشرفة وأكواب الشاى بالنعناع الأخضر، والوليمة السنوية يوم ميلادى والإصرار الجميل على أن تعد هى كل الأطعمة كنوع فريد من الحب، وأن تعد لى ثياب العيد وتتفنن فى زخرفتها بإبرتها الخاصة وخطوطها اللامعة، وسنوات الدراسة وفرحة الانتقال من سنة للأعلى واللهفة على المدرج الجامعى والإحساس بالانتماء والحب والمشاعر الخضراء والأحلام اللانهائية، وأول حذاء أنثوى، والفستان الأبيض، وليلة الحنة، ومزاح صديقات الطفولة، والزفة على درجات البيت، ودموع أمى فرحةً بالعرس وحزناً على البعاد. وتعجبت من أن رائحة طعام أمى وقهوتها ما زالت بين الجدران وفى مطبخها بعد هذه السنوات ودولاب ملابسها يحتفظ بأنفاسها وثيابها، وشرفتنا التى شهدت لحظات انتظارها عودتنا من المدرسة ثم الجامعة ثم من البيت البعيد عنها، وطلة الأحفاد لأعلى لحظة الوصول بحثاً عنها وعن أحضان وهدايا نادرة وطعام وحلوى.. وفى حجرتى وجدت سلال الذكريات كما هى مليئة بالضحكات الصافية والأمنيات العالية التى اعتلت ناطحات السحاب والصور المبهجة مع الأحباء ورفقاء الطريق، وعروستى الشقراء وثيابها المزركشة والقلب الصغير والقلم الفضى والأوراق الملونة والأوتوجراف الذى امتلأت أوراقه بكلمات الحب الساذجة فى زمن كانت هى السمة الرئيسيّة للأطفال المصريين، وليتها دامت، وإلى جواره وجدت الكتب التى كوّنت مشاعرى وعلمتنى المعنى الحقيقى للكلمة وثمنها الذى لا يقدر بمال، وجعلتنى أعرف منذ صباى أن هناك بنكاً للعلم وللكلمات والمشاعر والتجارب، وأنه إن أردنا أن نكون من مبدعى الكلمة فيجب أن نمزج كل هذه المكونات ليخرج فى النهاية من بين أيدينا ومن أقلامنا ما يستحوذ على الإعجاب وانبهار الآخرين والوصول للنجومية. فقد وجدت كتب إحسان عبدالقدوس الذى علم الأجيال معنى الحب، ويوسف السباعى صانع الرومانسية، ونجيب محفوظ العالمى راسم الواقع المصرى وصاحب اصدق وأجمل صورة للمصريين، وتوفيق الحكيم الذى أدركت من بين سطوره معنى أن تكون فيلسوفاً وأن تتحدث للجماد والحيوان، وكتب أنيس منصور الذى طُفت معه حول العالم ودخلت عالم الجن الوهمى أو الحقيقى الذى أدهشنى وأخافنى وهرب النوم منى ليالى بسببه، وكتب أستاذى فاروق خورشيد صاحب أجمل الأصوات الإذاعية والذى علمنى كيف أمسك بالقلم ومعنى الفن الشعبى وعرفنى بأبطال رواياته الذين وضعوا الفن الشعبى المصرى فى سجل الفنون (على الزئبق وسيف بن ذى يزن والقرصان والتنين والأميرة ذات الهمة) وصاحب أجمل مقالات عن الخوارق والمعجزات وعن مصر أم الدنيا اللى بناها الحلوانى ومنسيش يدّيها طعم بضاعته المشهورة. ومن أجمل ما وجدته فى سلال الذكريات والحب ديوان إبراهيم ناجى وأطلال حبيبته ونزار قبانى وقصائده التى قال فيها عن حلمه أنه لا يُحكى ولا يُفسَّر ووصفه للذكريات بأنها زمن البكاء ومواسم السهر الطويل.
عندما وصلت لنهاية السلال تذكرت كلمات محمد فؤاد وهو يغنى (ساعات باشتاق ليوم عشته وانا صغير ولنومى فى حضن لَبْس العيد وإحساسى إن بكره بعيد). ونصيحتى لكم أصدقائى أن تحافظوا على ذكرياتكم فهى الزاد الأخير لنا كلما تقدم العمر وغادرتنا الأيام وأحسسنا بأننا نقترب من محطة النهاية.