لا يكاد يمر يوم إلا وتشتعل معركة جديدة بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ووسائل الإعلام فى بلاده، إلى درجة باتت تهدد مسيرته فى الرئاسة من جانب، والحالة الإعلامية الأمريكية من جانب آخر.
فى الأسبوع الماضى، شن ترامب هجوماً جديداً على الصحافة، واصفاً ما تكتبه عن بعض تصرفاته بأنه «مثير للاشمئزاز»، وهو الأمر الذى استدعى رداً من جماعات ومنظمات داعمة لحرية الصحافة، حتى إن ديفيد كاى، مقرر الأمم المتحدة المعنِى بحماية الحق فى التعبير عن حرية الرأى، أكد أن هجمات ترامب على الصحافة «تنتهك المعايير الأساسية لحرية الإعلام، وتثير خطر حدوث أعمال عنف حقيقية ضد الصحفيين».
يتفق كثير من الساسة والباحثين الأمريكيين على أن توجهات ترامب التى تتسم بالحدة والانفلات فى كثير من الأحيان تكرس حالة من الاستقطاب، وتفاقم العدوانية فى الخطاب السياسى والإعلامى.
فى نهاية العام الماضى، شن ترامب هجوماً حاداً على بعض القنوات الفضائية الأمريكية، التى لم يتوقف عن وصفها بأنها «تنشر الأخبار الكاذبة»، لكنه راح أيضاً يشير إلى اسم إعلامى بعينه، ويتهمه ببساطة بأنه «أغبى رجل على التليفزيون».
يهاجم ترامب الإعلام الأمريكى بكل شراسة، ويرى فيه عدم الحياد والموضوعية، وعدم المسئولية تجاه الوطن، ويرى البيت الأبيض أن «تغطية الإعلام للرئيس ترامب تفتقر إلى الاحترام والإقرار برفعة منصب الرئيس».
لكن هناك فى الإعلام الأمريكى، خاصة فى الصحف الرئيسة، من يقول إن ترامب هو الذى تسبب بهذه الحالة، بسبب أخطائه الفاضحة وتصرفاته الشاذة.
يعدد روبرت رايش، وهو وزير عمل أمريكى سابق، وأستاذ للسياسة العامة فى جامعة كاليفورنيا، فى بيركلى، بعض مواقف ترامب العدائية وتصريحاته المنفلتة، فيقول إنه فى بداية مسيرته الرئاسية، وبعد إعلامه أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس يريد سن تشريعات تقتضى الإدانة قبل أن تتمكن الولاية من مصادرة ممتلكات المشتبه بهم بجرائم، سأل ترامب عن اسم هذا العضو، وقال «سوف ندمر حياته المهنية»، ويتساءل رايش: «هل هذا منطق يتعامل به الرئيس مع أعضاء مجلس الشيوخ؟». ويضيف: «رداً على الانتقادات التى وجهها عضو مجلس الشيوخ جون ماكين ضد سياسات الرئيس تجاه إحدى الدول التى وصفها بأنها غير ناجحة، قال ترامب: إن ماكين يعزز قوة العدو ليس إلا! وكان يخسر لفترة طويلة إلى درجة أنه لم يعد يعلم كيف يفوز الآن».
يشير «رايش» إلى واقعة أخرى حين طلب ترامب من الحضور فى إحدى الفعاليات الوطنية «الصلاة على روح حاكم ولاية كاليفورنيا السابق أرنولد شوارزينجر» (الذى حل مكانه كمضيف فى برنامج «المتدرب» على محطة «إن بى سى»)، لأن «تقييمات البرنامج لم تصل إلى المستوى الذى وصلت إليه مع ترامب كونه نجم البرنامج».
ليس هذا فقط، لكن ترامب أيضاً ذهب فى عدائه لوسائل الإعلام الرئيسة فى بلاده إلى اتهامها بالإضرار بالمصلحة الوطنية، حين تحدث إلى بعض المسئولين العسكريين قائلاً: «الصحافة غير النزيهة للغاية فى أمريكا لا تريد أن تنقل فى تقاريرها الأعمال الإرهابية».
تتصاعد الشكوك والمخاوف إزاء قدرة الرئيس ترامب على الوفاء بمتطلبات منصبه، إثر ما يظهر من مواقف وتصريحات «حادة ومنفلتة»، يبثها عبر المجال الإعلامى.
فإضافة إلى الجدل الذى سببه قراره بحظر دخول المسلمين من بعض الدول، أوقف ترامب مؤقتاً قاضياً فيدرالياً حظر قرار منع الدخول إلى الولايات المتحدة من 7 دول ذات أغلبية مسلمة، معفياً المسيحيين، ولم يكتفِ بهذا، بل إنه هاجم القاضى قائلاً: «إذا حدث شىء ما، ألقوا باللوم عليه وعلى نظام المحاكم».
يعتبر ساسة وباحثون متخصصون أن هذه الطريقة يمكن أن تجلب الكثير من المتاعب، ويذهب بعض النقاد إلى أنها مقاربة ذات طبيعة «فاشية»، تُذكر بما جرى عند إقرار «باتريوت أكت»، فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، حين راح أعضاء فى إدارة الرئيس بوش (الابن) يهددون الساسة الذين دعوا إلى التريث فى فرض قوانين استثنائية قد تتعارض مع دستور البلاد.
وثمة ما اعتبره النقاد أيضاً تدخلاً سافراً فى عمل القضاء ضمن مواقف ترامب المثيرة للجدل، فعندما أكدت محكمة الاستئناف الأمريكية رفضها دعوى تطبيق حظر السفر، وصف الرئيس قرارها بأنه «مُخزٍ».
وعلى صعيد إرباك العلاقات الثنائية مع دول أخرى، حذر ترامب الرئيس المكسيكى بينا نييتو بأنه «على استعداد لإرسال جنود أمريكيين إلى المكسيك لوقف الرجال المكسيكيين السيئين هناك، إذا تعذر على الجيش المكسيكى السيطرة عليهم».
لقد أدت تصريحات ترامب ومواقفه التى تحفل بها وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية إلى جلب المزيد من الانتقادات والمساءلات السياسية التى تفاقم حالة الارتباك وعدم الاستقرار.
ومن ذلك ما قاله السيناتور الجمهورى الأمريكى البارز، جيف فليك، النائب عن ولاية أريزونا، على صعيد مقارنته بين هجمات الرئيس دونالد ترامب على وسائل الإعلام وبين خطاب الزعيم السوفييتى الراحل، جوزيف ستالين، الذى يعتبره قطاع عريض من الساسة والجمهور الأمريكى المثل الأوضح على «الديكتاتورية». ووفقاً لمقتطف من خطاب فليك، فإن انتقاده للرئيس ينطلق من وصف هذا الأخير لوسائل الإعلام بـ«عدو الشعب»، وهو الأمر الذى اعتبره هجوماً «لم يسبق له مثيل ولا مبرر له».
يخاطب فليك الرئيس قائلاً: «سيدى الرئيس.. استخدامك لكلمات قالها جوزيف ستالين بصوت عالٍ لوصف أعدائه يدل على الحالة التى وصلت إليها ديمقراطيتنا اليوم.. ليس هناك أسوأ من استخدام عبارة عدو الشعب، حتى إن (الرئيس السوفييتى الراحل) نيكيتا خروتشوف نهى عن استخدام العبارة، وأخبر الحزب الشيوعى السوفييتى أن ما قاله ستالين فى هذا الصدد كان يهدف إلى التحريض على إبادة أولئك الذين لا يتفقون مع القائد الأعلى».
يكره ترامب الإعلام الذى يُظهر عثراته ويكشف فضائحه، وبعدما تورط فى الأخطاء الفاضحة خلال لقائه مع الرئيس بوتين فى هلسنكى، لم يمتلك القدرة على الاعتراف بالخطأ والاعتذار، ووجد أن الأسهل من ذلك أن يواصل العناد وتلطيخ سمعة الصحافة واتهامها بالعمالة.
كثير من السلبيات التى تتناولها وسائل الإعلام عن القادة من صنع أيديهم، والحل يكمن ببساطة فى تفادى الأخطاء وليس فى لوم الإعلام أو إسكاته.