ما زلتُ أذكر يوم صدرت جريدة «لو فيجارو» الفرنسية تُشيد على صفحاتها الأولى بالاقتصاد المصرى، وترى أنه اقتصاد واعد، وأشارت إلى أن الشعب المصرى الضارب بتاريخه فى عمق الحضارات القديمة لقادر على أن يضحى لفترة تكون مصر بعدها رائدة فى المنطقة، وتعمل لها القوى الدولية ألف حساب. وفى حفل مهيب بضواحى باريس حضره عدد كبير من وجهاء الجالية المصرية ورؤساء المكاتب الفنية التابعة للسفارة، تبيّن أن الجندى المجهول الذى أعدَّ ونظَّم هذا الاحتفال هو المستشار الثقافى المصرى فى باريس وقتئذ (الدكتور أحمد البرعى، وزير الشئون الاجتماعية والقوى العاملة السابق).
وكانت غيرة الدكتور البرعى ووطنيته الخالصة وحبه لمصر وثقته فى مستقبلها الزاهر سبباً فى أن يلتفَّ المبعوثون المصريون حوله، فلقد قام بعدد من الإصلاحات التى لا تغيب عن أذهان الكثيرين اليوم.
فالمركز الثقافى ومكانه فى قلب الحى اللاتينى المتاخم لجامعة السوربون كان مغلقاً، ولا تجرى فيه نشاطات من أى نوع، لأن المستشارين الثقافيين السابقين لم يكونوا يعطون الثقافة ما تستحق من اهتمام.
ومن الدعابات التى أذكرها أن أحد العاملين بالمركز الثقافى فى ذلك الوقت، وكان يُدعى «سمير» طلب أن يضع أمام مدخل المركز المغلق «قفصين طماطم وخيار»، لبيعهما أفضل كثيراً من أن يظل عاطلاً عن العمل، وأذكر أن الدكتور البرعى انتهز فرصة وجود المطربة اللبنانية المعروفة نجاح سلام وأقام حفلا يدشن به افتتاح المركز الثقافى من جديد، حضره كل أفراد الجالية المصرية، ووضع برنامجاً ثقافياً وترفيهياً للمركز الذى كنا نجده مفتوحاً ليلاً ونهاراً، ونقرأ فيه الصحف المصرية ونقيم فيه اللقاءات ونعقد فيه الندوات والمؤتمرات الثقافية كل أسبوع، وندعو الفرنسيين المهتمين بالثقافة المصرية للتناقش معهم فى أصول هذه العلاقة بين مصر وفرنسا ومستقبلها.
ومما أذكره للمستشار الثقافى أنه لاحظ أن الطلبة التابعين له كان يخاطبهم المستشارون الثقافيون بالسيد الطالب، فطلب أن تتم مخاطبتهم بالسيد الزميل، ومما يُذكر بامتنان أن الملحق الثقافى المصرى بعد المستشار هو الدكتور على عبدالعال رئيس مجلس النواب، الذى كان يفتح مكتبه للمواطنين القادمين من مدن فرنسا المختلفة، وأسوة بالدكتور البرعى كان يتصدى لحل مشكلات المبعوثين، ويقف دائماً فى صفهم.
والحق يُقال كانت مرحلة عامرة بالنشاط الثقافى والترفيهى، وخصوصاً فى شهر رمضان من كل عام، فكانت حفلات الإفطار تتوالى، ويحرص الدكتور البرعى على دعوة رموز الجاليات العربية والإسلامية وعدد من كبار المستشرقين الفرنسيين، ليشاركوا المصريين فرحتهم بالشهر الكريم. أما طلبة الإشراف العلمى فقد دخلوا انتخابات الطلبة المبعوثين لأول مرة، وتولى الدكتور البرعى طباعة رسالات الدكتوراه الخاصة بهم على نفقة الدولة، وبتعليمات خاصة من وزير التعليم وقتئذ حسين كامل بهاء الدين، فطلبة الإشراف العلمى يدرسون على نفقتهم الخاصة، ويختلفون عن الطلبة الممنوحين أو المبعوثين، ولم تصبح لهم كينونة علمية، ويحظون باحترام من المركز الثقافى إلا فى زمن الدكتور البرعى. أعترف أخيراً أنه -أطال الله فى عمره- كان قريباً من الطلبة ويتعامل معهم جميعاً كزملاء، مما جعلهم يثقون بأنفسهم وبقدراتهم على البحث العلمى الذى جاءوا من أجله.