حالة جدل كاشفة أثارها الفيديو الذى حمل حوار «طفل سوهاج» (محفوظ) المقبوض عليه فى قضية تهريب مع عدد من المراهقين. بدايةً أى شخص يشاهد الفيديو لا بد أن يشعر بالعطف على أبطاله. وأسباب ذلك بديهية من بينها: السن ومسئولية الطفل -كما أفصح- عن رعاية أم وشقيقات بنات (ثبت بعد ذلك كذب الطفل من خلال حوار أُجرى مع عمه ونُشر على موقع فيتو). كما أن الكلام عموماً لمس حالة الوجع الاقتصادى العام التى يعانى منها الكثيرون، لكن العطف شىء والتعاطف شىء آخر. العطف على الضعيف المنكسر المهزوم مسألة إنسانية، لكن التعاطف معه حين يقع فى محظور أمر كاشف عن عدد من الأفكار الكارثية التى تشكل جزءاً من ثقافة هذا المجتمع. دعنا نعالج منها ثلاث أفكار.
الفكرة الأولى: «الحكومة لا تعطينا ولا تساعدنا على حل مشكلاتنا، لذلك لا بد أن نسرق منها». الشق الأول من العبارة صحيح، فالحكومة لا تقوم بواجبها نحو المواطن ومهملة فى حل مشكلاته، بل وتعتمد على جيبه فى حل مشكلاتها، لكن ذلك لا يمنح المواطن حقاً فى سرقة أو نهب المال العام، لأنه فى هذه الحالة لا يسرق الحكومة، بل يسرق حق غيره، والخطوة التالية بعد سرقة الحكومة هى سرقة الأهالى. مجموعة الأولاد المتهمين بالتهريب والذين شاهدتهم فى الفيديو من الوارد جداً إذا سُدت فى وجوههم مداخل «شغلانة التهريب» أن يتوجهوا إلى سرقة الأهالى فى الشوارع والبيوت، هل بإمكانك أن تبرر لأحدهم إذا سطا عليك فى الشارع الأمر قائلاً: معلهش أصله محتاج؟!. لا بد أن يكون هناك حل آخر أكثر إيجابيةً فى التعامل مع هؤلاء الأبناء.
الفكرة الثانية: «ما أُخذ بالسرقة يُسترد بالسرقة» هذه العبارة تجدها فى رواية «اللص والكلاب» للعالمى نجيب محفوظ، وجاءت على لسان رؤوف علوان وهو يزيّن السرقة لسعيد مهران، فالأغنياء أكلوا حق الفقراء، وسرقوهم ابتداء، ولا سبيل إلى استرداد ما أُخذ بالسرقة إلا بالسرقة. أبطال الفيديو كانوا يتحدثون عن ثراء الحكومة وفقرهم، والطفل الذى خلق الحالة تحدث عن أنهم يهربون دستة أو اثنتين من الملابس، يعنى ينالون رشفة عصفور من بحر، فهل ستضار الحكومة بذلك؟. يخطئ مَن يظن أن بإمكانه إيقاف السرقة بالسرقة، والعنف بالعنف، والجهل والجهل. من حق المواطن أن يتهم الحكومة كما يشاء، وأن يرى فيها أى نقيصة، لكن هذا الحق يقابله واجب يتمثل فى تقويم اعوجاجها والأخذ على يدها، أما غير هذا الطريق، فيعنى التعاون مع الحكومة على مزيد من التخريب للواقع!.
الفكرة الثالثة: «الكبار يسرقون ويمرون بسرقاتهم.. إذن من حق الصغار السرقة». ربما كانت تلك حال بعض الكبار، لكن هل معنى ذلك أن نبرر بالسرقة للصغار؟. السرقة سرقة فى النهاية كبيرة أم صغيرة. ولن يعتذر صغير وهو يحاسب عن سرقاته أمام الله بأن الكبار كانوا يسرقون. هذا كلام ساذج. الصواب أن يوجه الصغار -وهم كثر- جهدهم إلى تصحيح الأوضاع، وليس بإمكان فرد أن يهزم مجموع. الاستناد إلى هذه المقولة الزائفة يعنى حرصاً على استمرار الخلل الذى أصاب المجتمع.
للوالى محمد على باشا، مؤسس مصر الحديثة، تجربة فريدة فى الاستفادة من أطفال مماثلين لأبطال فيديو بورسعيد، فقد جمع أطفال الشوارع وأطعمهم وكساهم ورتّب لهم مكافآت شهرية، وشرع يعلمهم أنواعاً مختلفة من الحرف والصنائع، ليشكلوا فيما بعد أداة من أدوات مشروعه النهضوىّ. بإمكان الحكومة، بالتعاون مع رجال الأعمال ومع كل مَن يقدر على المساهمة، أن تُقلد هذا المشروع لحل المشكلة بشكل بنّاء، بعيداً عن الأفكار التخريبية.