طقوس «الرسامة»: أداء صلاة «التجنيز» على الراهب وقص شعره على شكل صليب.. ومنحه اسماً جديداً
الرهبان
قيل إنها مدينة النساك، فأطلقوا عليها «شيهيت»، أى «ميزان القلوب»، هى صحراء وادى النطرون، التى كانت مقصد الأقباط فى القرن الرابع الميلادى، لجأوا إلى مغاراتها، زاهدين فى الدنيا، باحثين عن الخلاص، ليُعرف النساك فيما بعد بالرهبان، وتتطور على أيديهم الرهبنة، لتشيد الأديرة التى انتشرت فى ربوع مصر وخارجها، إلا أن «وادى النطرون» كانت صاحبة النصيب الأكبر من تلك الأماكن المقدسة التى بدأت بدير الأنبا مقار، لتصل بعد ذلك إلى 700 دير، لم يتبقَّ منهم إلا 4 فقط حالياً.
«الوطن» رافقت أحد الرهبان للتعرف على رحلته، واحتراماً للقرارات الأخيرة للجنة الرهبنة التابعة للمجمع المقدس، ومنع الرهبان من التواصل مع الإعلام، نحتفظ باسمه، قال فى البداية: تتميز الرهبنة القبطية بطقسها، فهى ليست متاحة لكل مسيحى، بل لها شروط وخطوات ليحصل القبطى على لقب راهب، طبقاً للقوانين الكنسية، ومنها قانون الرهبنة الجديد الصادر عام 2013، ففى الدير يمر الراغب فى الرهبنة بـ3 مراحل حتى يحصل على لقب «راهب».
ويضيف: «قليل من الأقباط من يتعلق بالأديرة، تهفو أرواحهم للهدوء والسكينة، يكرسون أوقاتهم للصلاة والعبادة، وتختارهم الكنيسة بعناية بعد التأكد من صدق رغبتهم، فتشترط أن يكون الساعى للرهبنة (سواء شاب أو فتاة) مسيحياً أرثوذكسياً، وله أب اعتراف، ومنتظم فى ممارسة الأسرار الكنسية بشهادة رسمية من أب اعترافه، ومحب للطقوس والتسبحة والألحان، وله دراية بعقائد الكنيسة وتاريخها، ولا تزيد سنه على 30 سنة ولا تقل عن 23 سنة، ولا يقل مؤهله عن التعليم الجامعى أو إتمام دراسة الكلية الإكليريكية، ولكن يُسمح بالاستثناءات لشرطى السن والمؤهل، بعد موافقة رئيس الدير، ولا يتم السماح بقبول المتزوجين أو من سبق له الخطبة».
العمل إجبارى داخل الدير لمدة 6 ساعات يومياً.. و«الأحد» إجازة وتجدد دورة العمل كل 3 و5 سنوات
يتابع الراهب: بعد التأكد من تلك الشروط يسمح الدير لطالب الرهبنة بالتردد عليه لمدة لا تقل عن عام، للتعرف عن قرب على الحياة الرهبانية، ليتم بعد ذلك إلحاقه كـ«طالب رهبنة» ويرتدى جلباباً باللون الأزرق، ويُمنح اسماً جديداً بدلاً من اسمه العلمانى، وتختار الأسماء دائماً لقديسى الدير أو بعض آباء الرهبنة أو الملائكة، ويسبقه لقب «الأخ»، ويُفتح له ملف بالدير يضم «طلبه للرهبنة وتزكية حديثة من أب اعترافه، وأوراقه الرسمية، والحالة الاجتماعية له من جهة الخطبة أو الزواج وإجازة العمل أو خلوّ طرف، وصحيفة الحالة الجنائية والموقف من الخدمة العسكرية، والتقرير الطبى من الجهة المتعاقد معها الدير للتأكد من الخلوّ من الأمراض المزمنة والمعدية، وتقرير الحالة النفسية من الطبيب النفسى المتعاقد معه الدير، وتقرير متابعته كل 3 شهور، المقدم من مشرفى الدير وتحت إشراف مشرف الدير لشئون طالبى الرهبنة، الذى يراعى فيه أن يتم تغيير العمل المسند لطالب الرهبنة كل 3 شهور حسب ظروف كل دير والمرور على جميع أنشطة الدير وخدماته مع جميع مشرفى الدير، وتوصيفه الوظيفى إن كان يقوم بمسئولية خاصة بالدير، ومتابعة حالته الصحية، وأية عقوبات أو تأديبات إن وجدت»، وتلك المرحلة تستمر لمدة عام، ليتم بعد ذلك تغيير زى «طالب الرهبنة» إلى اللون الأبيض أو البيج، ويقوم الدير بتقييم طلاب الرهبنة من خلال تقارير المتابعة ربع السنوية المقدمة من مشرفى الدير، للنظر فى سيامة الطالب «راهباً»، وذلك فى فترة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على 3 سنوات.
ويشير القانون الكنسى إلى أنه يمكن فى أى مرحلة من المراحل الثلاث رفض قبول طالب الرهبنة، وفى تلك الحالة يتم إخطار بقية الأديرة من خلال لجنة شئون الأديرة وسكرتارية المجمع المقدس بأسماء من تم عدم قبولهم والأسباب، ولا يجوز لأحد من الأساقفة أو الكهنة سيامة راهب أو راهبة إلا على دير معترف به من الكنيسة، كما لا يتم ذلك إلا بواسطة أو بإذن من رئيس الدير أو أسقفه أو البابا، وتكون الرسامة فى الدير المنسوب إليه أو مقر البطريرك وبيده.
«متبتل» فى «وادى النطرون»: الكنيسة تختارهم بعناية وتتأكد من صدق رغبتهم ومحبتهم للطقوس ودرايتهم بعقائد الكنيسة
أما طالب الرهبنة الذى يُقبل سيامته راهباً فإن مراسم سيامته تشمل التوقيع كتابتاً على وثيقة مبادئ رهبانية يتعهد فيها الطالب بالعيش راهباً دون طلب أى درجة كهنوتية، وأن لا تكون له ملكية شخصية، وأن يخضع استخدامه للتقنيات الحديثة لإذن من رئيس الدير ولهدف محدد، ومتابعة ذلك مع أب الاعتراف، وعدم التحزب داخل الدير لأحد، وتقبُّل قرارات الدير دون اعتراض أو إثارة مشاكل.
وأثناء قداس رهبنته يتلو الراهب قسماً أو تعهداً بـ«الثبات على الإيمان الأرثوذكسى، واحترام قوانين الكنيسة، وأن يبتعد عن محبة المال، وألا يدخل فى معاملات مالية مع أحد حتى أسرته، وأن يعيش فى حياة العفة والطاعة، وألا يكون محباً للترف أو النزول إلى المدن والريف».
وتقوم فلسفة الرهبنة على «الطاعة، والفقر الاختيارى، والتبتل الطوعى»، وتتميز الرهبنة القبطية بطقسها المميز فى رسامة الرهبان. وبحسب الأنبا مكاريوس، أسقف عام المنيا وأبوقرقاص، فى كتابه «لماذا يُقبل شباب الأقباط على الرهبنة»: «يقضى الراهب ليلته قبل الرسامة بالكنيسة بجوار أجساد القديسين ومعه أب اعترافه وبعض من الرهبان، ويقضون الليل فى الصلاة والتسبيح والقراءة فى الكتاب المقدس. وفى الصباح، وبعد رفع بخور باكر، يقف طالب الرهبنة أمام الهيكل، حيث يردد التعهد الرهبانى خلف رئيس الدير الذى يقرأه عليه، وبعد ذلك ينام على ظهره بجوار مقصورة القديسين ووجهه نحو الشرق ضاماً كلتا يديه على صدره فى شكل الصليب، ثم يغطونه بستر مثل الميت (أثناء صلوات الرهبنة يقوم أحد الرهبان بين آن وآخر بمسّ قدمى الراقد لئلا يدركه النعاس، لا سيما أنه قضى الليل كله ساهراً)». وتُقرأ قراءات طقسية، منها صلوات التجنيز بحسب الاعتقاد الكنسى والتى فيها رمزية، وبعد ذلك يرفع الستر عنه الذى يشبه الكفن، فيقف الراهب أمام رئيس الدير أو البابا الذى يبدأ فى قص شعره فى خمسة مواضع تكوّن شكل الصليب ناطقاً باسمه الجديد، ويتم إلباس الراهب ملابس الرهبنة السوداء، والقلنسوة وهى غطاء للرأس، هذا وقد اتُّبع طقس جديد منذ عدة سنوات، يقضى بأن يمكث الراهب الجديد بعد رسامته ثلاثة أيام فى قلايته -مكان سكنة فى الدير- حبيساً متأملاً فيما صار إليه.
يُشترط فى المقبولين الحصول على مؤهل عالٍ وألا يكون قد سبقت له الخطوبة ولا تزيد سنه على 30 عاماً.. والخضوع لفحص نفسى دورياً
ونفس تلك الخطوات تتم فى أديرة الراهبات، وتكرس حياة الراهب داخل الدير للصلاة والتدبر الروحى، حيث يتكفل بتوفير أكله وشربه وكافة نفقاته ويُمنح داخل الدير «قلاية» أو سكناً خاصاً به، وتحرص الأديرة على التنمية الثقافية والروحية واللاهوتية والكنسية والعلمية للراهب، حيث يتم تنشيط الدور البحثى والعلمى للأديرة من خلال مجموعات رهبانية بحثية فى مجال اللغات والمخطوطات والأثريات والكنسيات، وتوافر آليات للبحث العلمى داخل الأديرة، وتكوين لجنة خاصة بالبحث العلمى والتنمية الفكرية داخل كل دير مع متابعة اللجنة المجمعية للأديرة ولأنشطتها.
وبجانب تكريس الراهب حياته للصلاة، لا تعفيه الأديرة من العمل داخلها، إذ تخصص الأعمال الشاقة للأقوياء جسدياً، أما الضعفاء فلهم أعمال تناسبهم، وتبلغ مدة العمل فى الدير للرهبان 6 ساعات فى النهار، إلا إذا اقتضى الأمر الواجب وقتاً أكثر من ذلك لمصلحة الدير، ويكون يوم الأحد راحة من العمل، أو حسب ضرورة العمل.
وتلزم قوانين الكنيسة بعدم عمل الرهبان عملاً جسدياً خلال فترة أسبوع الآلام الذى يسبق احتفال الكنيسة بعيد القيامة، حسب الاعتقاد المسيحى، وتخفف الأديرة العمل عن الرهبان كلما تقدموا فى السن أو فى حالات انشغال الرهبان بالدراسة أو الخدمة.
وتقوم الكنيسة بتجديد دورة العمل داخلها كل فترة «3 إلى 5 سنوات»، حتى لا يرتبط الراهب بعمل معين أو بصلاحيات معينة، مما يخلق توازناً مطلوباً، باستثناء الأعمال الفنية الدقيقة التى تحتاج إلى موهبة خاصة.