منذ أن نشرت جريدتنا الغراء مقالى «الشراكة الكويتية الصينية وتغيرات الإقليم» 20 يوليو الماضى، والاستفسارات تتوالى بشأن مؤشرات التغير الاستراتيجى على مستوى الإقليم.. والحقيقة أن المنطقة تمر بمرحلة مخاض، لم تتبلور ملامحة النهائية بعد، ولكن يمكننا كمقدمة، إجراء مراجعة عامة للمتغيرات الرئيسية بالإقليم.
أول المتغيرات أفول نجم الإخوان بعد سطوع عارض.. عجزوا عن نشر الإسلام السياسى، بسبب تصدى مؤسسات الدولة لمؤامراتهم.. الإطاحة بشاه إيران، وتبنى نظام الملالى «تصدير الثورة»، كان سبباً فى انتشاره، بصبغة طائفية، حققت استقطاباً مذهبياً بالمنطقة، التنظيمات السنية والجماعات التكفيرية المنبثقة عن الإخوان، بداعميهم، ضد ميليشيات حزب الله، الحوثيين، والحشد الشعبى، وإيران.. خسر الطرف الأول معركته مع الدولة الوطنية، والطرف الثانى فى طريقه للسقوط، بهزيمة طهران، نتيجة لأزماتها الداخلية، لكن الخراب والفوضى جعلت المنتصر مهزوماً.
بعض دول الخليج والجزيرة مسئولون عن تدهور أوضاع المنطقة، اختياراتهم الاستراتيجية افتقدت الرؤية للأهداف والمصالح القومية، فعجزوا عن إدراك تطلعات تركيا العثمانية، وضخوا من الاستثمارات والإنفاق السياحى وشراء العقارات ما حول اقتصادها إلى واحد من أقوى اقتصاديات المنطقة.. ولم يستوعبوا سعى إيران للتمدد وإنشاء الهلال الشيعى، فسلموا لعملائها الحكم بالعراق بعد الغزو الأمريكى، وفاء لما قاموا به من دور فاعل فى إسقاط صدام وإنجاح الغزو، ما أوقع بغداد ضمن دائرة نفوذ طهران.. والأخطر، تحول أموال الخليج إلى مصدر رئيسى لدعم وتسليح التنظيمات الإرهابية، بدعوى الدفاع عن الديمقراطية فى سوريا، ما فتت الدولة، وكاد يسقطها.. إضافة إلى تصور هذه الدول أنها قادرة على نشر ثقافتها بين شعوب المنطقة، صدرت الوهابية المتطرفة التى وفرت البيئة الحاضنة للإرهاب.. دول شقيقة غير مؤهلة تبوأت القيادة، بحكم ثقلها الاقتصادى، فدفعت بالمنطقة وشعوبها إلى الجحيم، والحمد لله أنها حالياً تسعى لمواجهة التطرف، وميراثه المقيت.
مجلس التعاون الخليجى أنشئ لتأمين دويلاته، ضد المخاطر المرتبطة بنشوب الحرب العراقية الإيرانية، بعضها دعا الدول الكبرى للتمركز بحجة تأمين الممرات الدولية، فتكدس الخليج بالقواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وتورطت دوله فى صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل، تغير توازنات القوى فى العالم، واتجاه أمريكا للانسحاب بدأ يقلقها على مستقبلها، قطر لجأت لتركيا وإيران، واتجهت الكويت والإمارات للصين، والسعودية تسعى لمواءمات مع روسيا وإسرائيل.. تفتت المجلس، ومخاض التغيير يجتاح دوله، والمنطقة.
الخليج كان ممراً لقوافل النفط، ما عرضه للتهديدات والضغوط الإيرانية ضمن صراعها مع الغرب، مواجهاتهم تراجعت بتوقيع الاتفاق النووى، لذلك يتمسك به الغرب، رغم الانسحاب الأمريكى.. أهمية الخليج، ضمن الشرق الوسط ككل تراجعت لدى أمريكا، نتيجة لاكتشافات الغاز الصخرى، وانتقال مركز الطاقة الدولى منه إلى شرق البحر المتوسط، حيث اكتشافات الغاز الضخمة بمصر وقبرص وإسرائيل، ومشاريع تصديرها لأوروبا، أمريكا تتعجل تمركزها فى الشرق الأقصى والمحيط الهادئ وبحر الصين، لحصار المارد الأصفر.. لكنه فاجأها وهاجمها فى عقر مصالحها، بتوقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الكويت، وزيارة رئيسها للإمارات، لأنها وضعت المنطقة على رأس تطلعاتها للتعاون ضمن مبادرتها «الحزام والطريق»، باعتبارها الممر البرى الرئيسى لطريق الحرير نحو المتوسط.. الصين تدق أبواب المنطقة.
الوجود الإيرانى فى سوريا أصبح محوراً للمشكلة، التى تم تفجيرها 2011 لإسقاط الدولة، والتخلص من النظام الذى رفض التعايش مع إسرائيل، وطالما هددها، التدخل الإيرانى لم يفلح فى مساندة النظام، فكاد يسقط، لولا التدخل الروسى سبتمبر 2015، سماح أمريكا بوجود عسكرى روسى دائم اقترن بتفاهمات سياسية، تضمنت التزامه بأن يكون شريكاً فى ضمان أمن الدولة العبرية، وروسيا تعهدت، بعد أن تحولت إلى دولة احتلال لسوريا، وأعطت موافقتها على تدمير إسرائيل للبنية الأساسية للوجود العسكرى الإيرانى، واحتلال تركيا لمحافظات بالشمال، وأجبرت إيران والميليشيات على الانسحاب من القطاع الموازى للحدود بعمق أكثر من 40 كيلومتراً، كمقدمة للانسحاب الكامل، روسيا عادت للمنطقة بعد غياب عقود، كقوة احتلال، وجه قبيح، يختلف عما ظهر به الاتحاد السوفيتى القديم، كنصير للأنظمة الوطنية.
ترامب كان وراء تموضع روسيا بالمنطقة، بصورة ستؤثر سلباً على المصالح الأمريكية، وصف بوتين بـ«القائد الفذ» 2016، وأنه «رجل شديد المراس» 2017، وهنأه بحرارة على فوزه فى الانتخابات، يسعى منذ توليه الحكم إلى تحسين العلاقات مع موسكو خلافاً لما دأب عليه الجمهوريون، ودعا إلى إعادتها لمجموعة الدول السبع يونيو الماضى، بعد تعليق عضويتها منذ ضمها لشبه جزيرة القرم.. ثم إنه يدمر علاقات أمريكا بأوروبا، ما يبرر دعم روسيا له خلال الانتخابات الرئاسية، ويفسر حالة النفور التى سادت بينه وبين قادة الناتو خلال اجتماعهم الأخير يوليو 2018.. ترامب يدفع الشرق الأوسط نحو اضطرابات جديدة، الانسحاب من الاتفاق النووى، وإعادة فرض العقوبات على إيران، يضعف موقف المعتدلين بالداخل، ويعزز دور الصقور، ما يفسر الهجمات التى تعرضت لها الناقلات فى باب المندب، والتهديدات الموجهة لمضيق هرمز، وكلها تشكل ضرراً جسيماً بحركة التجارة الدولية، وحرية المرور عبر البحر الأحمر، وقناة السويس، وخليج العقبة، وهى ممرات دولية استراتيجية، يهدد أى مساس بها بحرب، نعرف كيف تبدأ، ولا يعرف أحد كيف ولا متى تنتهى.
تغيرات الإقليم عديدة، كلها تدفع فى اتجاه تقلبات مستقبلية ذات طابع دراماتيكى.. الأولى: إيران ستُجبَر على العودة لداخل حدودها، مهزومة فى سوريا، بعد تدمير إسرائيل لبنيتها الأساسية، والتوافق مع روسيا على طردها، وفاقدة ثقة الأغلبية الشيعية فى العراق، بعد انحياز شيعة الجنوب للوطنية العراقية ممثلة فى مقتدى الصدر، فى مواجهة القادة الموالين لطهران، وكذا تحت وطأة الغضب الداخلى المتفجر.. الثانية: أن التفاهمات الروسية مع أمريكا وإسرائيل حوّلت الأخيرة إلى مصدر القوة ومنبع القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالمشرق العربى، خاصة فى ظل تراجع العداء بينها وبين السعودية ودول الخليج لصالح الحشد ضد إيران.. الثالث: أن مصر عائدة، وبقوة سياسية تحتاجها المنطقة، وعسكرية تضعها فى مصاف العشرة الكبار، واقتصادية تسمح بإحياء أدوات قوتها الناعمة، ومعالجة تبعات ممارسات الدول غير المؤهلة للقيادة.. المخاض لن يستغرق وقتاً طويلاً، نتائجه ستترجمها انقلابات سياسية مقبلة، لن يتجاوز أبعدها الخمس سنوات، فلا تتعجلوا يا سادة «تغيرات الإقليم».