وجود هيئات مشرفة ومنظمة لصناعة الصحافة ضرورة لا خلاف عليها، لكنْ ثمة فارق كبير بين هيئات تتشكل من شخصيات يختارها أولو الأمر، وهيئات تتشكل من ممثلين للمجتمع ورموز الصناعة، فارق كبير أيضاً بين هيئات تجد أن دورها حماية السلطة من الصحافة، وأخرى تستهدف الدفاع عن الصناعة والحفاظ على استقلالية المهنة، كما أن المسافة التى تفصل بين هيئات تجد أن دورها يتحدد فى خنق الصحافة وأخرى تسعى إلى إنعاشها ودفعها إلى الأمام تعادل المسافة ما بين السماء والأرض.
الاستقلالية والمهنية هما المفتاحان الأساسيان لنجاح أى صحيفة، وغيابهما يتوازى معه بالضرورة تراجع الطلب الجماهيرى على الصحف وغيرها من وسائل الإعلام. فلا حاجة لدى الجمهور لمطالعة منشورات دعائية مؤيدة أو أخرى تحريضية مناوئة. الجمهور يحتاج إلى خدمة قادرة على إشباع احتياجاته. وبإمكانك أن تقيّم أداء الهيئات المشرفة على الصحف فى أية دولة طبقاً لهذين المعيارين. فإذا وجدتها تحمى استقلالية ومهنية الصحف فعليك أن تثق فى أدائها وتطمئن إلى قدرتها على حماية المهنة، وإذا كان العكس فعليك أن تعلق جرس ضياع المهنة فى رقبتها.
معادلة النجاح فى تقديم خدمة صحفية قادرة على جذب القارئ معروفة لكل من عمل فى هذه المهنة. دعونا نستذكر درس جريدة «المصرى اليوم». فقد تأسست عام 2004 فى وقت لم يتوافر فيه داخل سوق الصحف اليومية سوى 3 جرائد يومية، وبعض الصحف المسائية والحزبية اليومية ضعيفة الأثر. اعتمدت الصحيفة منذ صدورها على معادلة بسيطة ملخصها «ما يخفيه غيرنا أو يضعه فى سلة المهملات سننشره نحن». ماذا كانت النتيجة؟. تفوقت الجريدة الوليدة وأصبحت توزع أكثر من بعض الصحف القومية الراسخة فى السوق منذ عشرات السنين والمدعومة بإمكانيات هائلة. حظ «المصرى» أنها صدرت فى توقيت كان نظام الحكم فيه أميل -بضغوط داخلية وخارجية- إلى فك القيود على العمل السياسى وحرية الرأى والتعبير. فى ظل هذا المناخ المواتى انطلقت الصحيفة بمجموعة من الشباب القادرين على استثمار الظرف والطامحين إلى تطبيق مجموعة من المعادلات المهنية البسيطة التى تؤدى إلى النجاح.
لعلك تعلم أن أغلب من عملوا فى صحيفة «المصرى» وغيرها من التجارب الصحفية الناجحة هم فى الأصل صحفيون من الجرائد القومية. فماذا يعنى ذلك؟. إنه يعنى ببساطة أنه لا نجاح لأية جريدة سوى بالاستقلالية والمهنية. الصحيفة التى يتوافر لها هذان الشرطان تنجح والتى لا يتوافر لها ذلك تفشل. هكذا ببساطة. نحن أمام هيئات لا تنشغل بقضايا المهنة بل تهتم بأمور أخرى!. منذ نحو 3 أشهر أصدر المجلس الأعلى للإعلام قراراً بمنع ذكر اسم شيخ الأزهر دون أن يسبقه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، وذكر اسم البابا دون أن يسبقه قداسة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية. تلك هى المهنة فى نظر أكبر هيئة إعلامية فى مصر، فما بالك بغيرها. الهيئة الوطنية للصحافة على سبيل المثال يتحدث أعضاؤها باستمرار عن الصحافة الإلكترونية وكيف أنها أصبحت البديل الموضوعى للصحافة المطبوعة، يفرحون بهذه التصريحات كثيراً ويعيدون ويزيدون فيها وكأنهم اكتشفوا سر الذرة، ولا يفهمون أن مصير الإلكترونى بطريقتهم فى التفكير والأداء سيكون مثل مصير المطبوع، فأى نافذة إعلامية تفتقر إلى الاستقلالية والمهنية لازم «تجيب ضُرَفها»!.