مشهد ما كابدته البشرية بالحربين العالميتين الماضيتين، وما انفجر هنا وهناك من غزوات وحروب بين الكوريتين وفيتنام والهند الصينية والحروب الهندية الباكستانية والبوسنة والهرسك والحرب الإيرانية العراقية والغزو الأمريكى لأفغانستان ثم للعراق وغزوات إسرائيل بلبنان.. مشهد هذه الحروب وغيرها يؤكد بفصوله ومآسيه المتلاحقة أن عقل الآدميين غائب، وأن الهلكة غلبت عليهم مع غياب البصيرة والفهم، وأن الهوة سحيقة بين مفرزات العلم وما أحدثته وتحدثه من حضارة، وبين قصور الفهم الإنسانى وما فجره عماه الضرير من حروب سالت فيها الدماء وأتت على الأخضر واليابس، وباتت بتواليها وغياب العقل عنها، خطراً منذراً بهلاك البشرية برمتها. فهل يعى الإنسان مخاطر ما هو فيه من جهالة وضلال؟!
الجد والتدقيق والعمق والتثبت تطلعات هنا وهناك قليلة فى كل مكان.. يغطيها بشدة وعنف أنانية ملتهبة كاسحة فى أيامنا هذه لدى عموم وخصوص الأمم والشعوب.. وهذه عاجزة تماماً بسبب يأسها وضعف قواها وإهمال تدريبها وتعليمها مع قلة التفات الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات إلى ذلك كله جرياً وراء وهم الحصول على الكسب ويسر الوصول إليه!
ما دام أكثر الناس هم أكثرهم حباً لأنفسهم وامتثالاً لرغابها وأطماعها، وأقل الناس هم أكثرهم إيثاراً وتعلقاً بالخير لغيرهم وهم معهم.. ما دام هذا هو حال الناس فإنه يستحيل على النفع العام أياً كان أن يكون إلاّ معلولاً معرضاً دائماً لأنانيات البشر.. تناوشه وتحتال عليه وتنشب فيه أظفارها كلما تهيأ ذلك لها.. إن ماضى الآدميين لا يشجع أحياءهم على حب الخير بإخلاص، ولا على الغيرية ولا العناية بالجار والالتفات لقريب وذى رحم.. فلم يتعود الآدميون على ذلك التراحم بصفة عامة فى أى عصر من العصور، وإنما خفت الأنانية أو الغلظة فى أوقات الرخاء، واشتدت فى الشدة، وصار الخير والبرّ والتراحم فاكهة جميلة نادرة فى أيدى الناس يرجونها ولا يصلون إليها إلاّ نادراً!
أحصى العلماء مائة مليار خلية عصبية فى مخ الإنسان وهو رقم يعادل عدد النجوم الموجودة فى المجرة التى يجرى فيها كوكبنا، فتأمل قدرة الخالق المبدع عز وجل.
من عرف مقام الله أقام نفسه فيه.
من حقنا بالصبر والفهم والاجتهاد والتكاتف أن نأمل فى مزيد من فرص الرخاء والإسعاد والسلام لنا ولعالم الأحياء معنا. ولكن هذه الفرص يقابلها حائط المحدودية الحالى، كما يقابلها حائط القلق والتردد والقصور والتفرق والتفكك البشرى.. وهذا الحائط لا يقل عن حائط المحدودية صلابة وصعوبة تناول ما يصادفه من كثرة عراقيل ومزالق ومساقط والتواءات ماضية وحاضرة ومستقبلة.. هذه الصعوبات الكثيفة، لدى ما لا حصر له من البشر، سواء من كانوا وتركوا ما تركوا، أو الأحياء الغرقى فى حاضرهم وسابقهم وآتيهم.. يجمعون عطايا المستقبل وهم مثقلون بأعباء حملها لهم آباؤهم وأجدادهم!.. وعليهم أن يحملوها الآن إلى عالم جديد يفتح فعلاً وواقعاً أمام البشر.. يربطه البشر بالأرض ويربط الأرض به.. عالم قريب ويوشك أن يتحقق إذا ظل التقدم العلمى والتقنى على قوته الحالية وتركيزه واقتداره وانتشاره.
فى شريعة الغاب لا يتصافح الكفان ما دامت بينهما فريسة. ولكن الإنسان هو وحده الذى يستطيع أن يسلم بيد، وأن يلطم بيده الأخرى!
كلما ازداد الوعى بالحياة كما فهمها الآدمى، زاد طمعه فيها وقوى شعوره بذاته وتطلع لأطايبه واشتد حرصه على نصيبه منها له ولأهله.. فإن ازداد واتسع وتعمق فهمه وهذا غير كثير! قد يرى قيمة فطرته الفاهمة العميقة أهم وأصدق وأغنى بكثير جداً من اهتمام غيره على «أناه» التى لا يشاركه فى الاهتمام بها سواه.. وعندئذٍ يمكنه أن يكسب ثقة آخرين يفهمون بعض ما فهمه ممن سقط فى نظرهم جشع الأنانية وحماقة تعصبها للذات.. وعافوا طفولتها ومراهقتها الكئيبة الحمقاء فى عين العقل والإنسانية العاقلة.. التى لا توجد أصلاً إلاّ مع سمو مرتبة العقل ومنزلته!
ففى أعماقنا بوادر خير غائر ربما ينتظر الفرص صابراً لتحطيم القشرة التى يكسو خلطها حياته.. هذه الحياة التى ترقب بين حين وآخر مفارقتها نهائياً غثاء الخلط والسطحية.
لم تقتصر مصاعب مقاومة اليسار أقصد الغنى على المجتمعات التى تحترم الحرية الفردية وتصون الحريات العامة وتحافظ عليها، وإنما رأينا أن مقاومة ذلك عسيرة أيضاً حتى فى المجتمعات الاستبدادية أو فى مجتمعات أوتوقراطية أو شيوعية ماركسية لينينية أو صينية، لأن اليسار فى هذه المجتمعات مستور.. ولكنه غير منعدم!.. تساعده أدوات السلطة على الاستتار، ولكنها لم تمنعه أو تعدمه، فظل موجوداً ينعم به المتنعمون من الحكام والأثرياء بعيداً عن عيون الناس!
حياة الآدميين من بدايتها إلى اليوم والغد، قصيرة جداً. تنتهى دائماً بزوال لا يحيط به الحىّ منهم قط.. وهى دنياهم التى لا تشارك ولا تماثل أبداً وتماماً حياة باقى الحيوان ولا حياة النبات.. لأنها منحت من المولى عزّ وجلّ.. فكرها قابل للنمو إلى غير نهاية آدمية ممكنة، وهى من هذه الزاوية فوق قدرة إمكان الحيوان الذى نعرفه الآن وقدرة النمو النباتى وقدرة الطاقات والقوى غير الحيّة الموزعة فى كل حىّ ما دام حياً.
كل ما أمام الآدميين هو فرص تلطيف وتهذيب عناء وشقوة هذا الكفاح الذى تموج به الحياة فى حدود الفرص المتاحة على هذه الأرض للعيش المعقول للجميع دون اقتتال. وربما تغير الحال وانفك هذا القيد الكونى إذا استطاع الذكاء والصبر والفهم والعلم والإتقان إنقاذ الأحياء من المحدودية التى يفرضها عليهم اقتصار حياتهم على الاعتماد على هذه الأرض بيابسها ومائها وجوها دون الاستفادة بالفرص التى ليست بها.. يحدث ذلك إذا تم الاتصال المثمر الذى ليس له آخر بثروات وقوى وطاقات الكون الخارجى الذى لا يعرف البشر مدًى لآخره!
الفرق بين الرجاء، وبين التمنى: أن التمنى يورث صاحبه الكسل، ولا يسلك طريق الجهد والجد، وبعكسه صاحب الرجاء: فالرجاء محمود، والتمنى معلول بما قد يصاحبه من احتمال القعود.
المتعلم والجاهل الآن يختلفان اختلافاً شاسعاً معظمه فى الأنانية.. لأن الأنانية حالياً تسود المتعلم كما تسود الجاهل اسماً فقط لا معنى.. فكرامة المتعلم اليوم، تملأ أنانيته لأنها فى نظره مليئة بإحساسه بعلمه وتصوره لقيمته، وذلك ليس لدى الجاهل.. فهذا قد استخدم فيها إما ثروته المادية وإما شخصيته فى نظره هو بسبب جرأته أو قوته أو هما معاً.. فلا يوجد اليوم فى أى مكان، من يخشى الله حقيقة ويتواضع لخدمة الخلق معنى ومبنى داخله وخارجه صغيراً أو كبيراً امتثالاً لله.. ولم يبق هنا وهناك الآن إلا ظاهره المتعارف الحريص هو عليه، للذين تأثروا بتعاليمه قشرياً أو إلاّ لهؤلاء الذين انجذبوا بقدر ما بقى عندهم من تصور الدين على هامش الدنيا للانتفاع به وبها معاً ببساطة لا تجاوز السطح!!
اقترن العناد ولا يزال، بكل سلبية تبعد الآدمى عن حسن وصواب وموضوعية النظر، وتبلغ النفس ذروة انحصارها فى الذات حينما تستسلم استسلاماً كلياً للعناد.. لأنه ليس إلا مواقف تنحاز فيها ميولنا بشدة إلى تمسك الذات وإصرارها على موقفها ووقف تفكيرها تماماً فى احتمالات العدول عن تمسكها بما تتمسك به وتتجمد عليه.
من أعطى العدل والإنصاف، وعاشر بجميل الخلق قوى بالناس عضده، وزاد بهم جلده، وبذلوا دونه المهج!
من عفا وأصلح وطهر قلبه من الحقد، أراح نفسه من هم العداوات!