لم يكن اختيارنا لموضوع يربط بين نشأة واستقرار الجمهوريات والجيش فى التاريخ المرحلى لمصر منذ إعلان أول جمهورية عقب ثورة يوليو وحتى الآن مجرد عنوان، بل إنه تاريخ مشترك لا يمكن فصله.. والجمهورية الثانية، التى ما زلنا بصددها والتى استمرت عشر سنوات، تجعل هذه الحقبة حبلى بأحداث الحرب والسلام التى لا يمكن إغفالها أو القفز فوق انعكاساتها التى تؤكد أنه لولا أن القوات المسلحة كانت الضامن والوسيط بين قرارات الرؤساء والشعب لمَا كُتب لها النجاح، والدليل القاطع على هذا هو ذاك الاصطدام وردود الفعل التى حدثت بين الرئيس السادات ووزارة الخارجية بعد حرب أكتوبر، وعند القيام بإجراءات السلام قدم اثنان من وزراء الخارجية استقالتهما (إسماعيل فهمى وإبراهيم كامل)، وقد قام د.بطرس غالى بأعمال الوزارة فيما بين تقديم كلتا الاستقالتين وحتى اختيار وزير جديد فأدى هذا الدور مرتين أيام الرئيس السادات الذى كان بدوره يرى أن الخارجية تنظر للأشجار بينما هو ينظر للغابة برمتها (هذا ما قاله الوزير نبيل العربى فى أحد حواراته). ولأن الأمر فى حاجة إلى نظرة أعم وأشمل مما يجول فى أروقة الخارجية فالشق العسكرى كان هو القاسم المشترك والأساسى الذى بنى عليه السادات (مهمة السلام). ويقول هنا نبيل العربى عندما كان المسئول القانونى بالخارجية أثناء مفاوضات السلام: «لقد أنشأ الرئيس السادات لجنة عسكرية لبحث انسحاب إسرائيل جزئياً من سيناء وكنت المستشار السياسى والقانونى لتلك اللجنة وتم بالفعل فض الاشتباك الأول فى ١٨ يناير ٧٤ وكان الوفد العسكرى المصرى برئاسة اللواء طه المجدوب وعضويتى مع العقيد فؤاد هريدى، وكانت لديه ملاحظات، ووجهنا برقية مشتركة إلى وزير الخارجية إسماعيل فهمى ووزير الدفاع المشير أحمد إسماعيل، ولكن هنرى كيسنجر نجح فى إقناع الرئيس السادات فى أسوان بالتوقيع بالرغم من هذه الملاحظات، ثم شاركت فى فض الاشتباك الثانى فى سبتمبر ٧٥ وطلب منى بين الفض الأول والثانى أن أنضم للوفد السورى فى ٣٠ مايو ٧٤ وقبل ذلك طلب منى الوزير الأسبق إسماعيل فهمى العودة للقاهرة وألحقت بمكتبه شهراً ونصف الشهر واشتركت فى اجتماعات اللجنة العسكرية التى كان يرأسها من الجانب المصرى اللواء محمد عبدالغنى الجمسى الذى وجدت فيه قدرة كبيرة على التحليل وعلى الشجاعة والوطنية» (انتهى كلام «العربى» بخصوص اللجنة العسكرية). إلا أنه فى شهادته عن الرئيس السادات يقول: «إن مصر مدينة له بحرب أكتوبر المجيدة لأنه وحده الذى اتخذ هذا القرار التاريخى وكان شجاعاً للغاية وتجاوبت مصر كلها معه وقام الجيش المصرى بمعجزة لم يتصور أحد أنها سوف تحدث لكن حصلت والحمد لله.. كانت لديه (رحمه الله) أفكار أحياناً يساء فهمها ولكن مصر لا شك مدينة له بالكثير» (انتهت شهادة «العربى»)، لنؤكد ما سبق أن ذكرناه عن أن السادات قام بمفاوضات السلام معتمداً فى الأساس على العسكريين من قادة أكتوبر وعلى الصفين الثانى والثالث فى الخارجية وكان على رأسهم (بطرس غالى، نبيل العربى، أشرف غربال)، إلا أن الصف الأول الذى يمثله وزراء الخارجية، الذين اعتقد السادات أنه انتقاهم لأنهم الأنسب للمرحلة، فإنهم انحازوا لأيديولوجياتهم، والأكثر من ذلك أنهم انصاعوا للاتجاهات العربية التى كانت رافضة أن يتزعم السادات مفاوضات السلام فأعلنوا رفضهم لكل ما يقول به ووقفوا ضده وأوعزوا لبعض وزراء الخارجية فى عهده بالانصياع لهم الذين بدورهم نسوا أنهم مواطنون مصريون وتحدثوا بلسان العرب أجمعين.. كان إسماعيل فهمى يتبع أحد الأجنحة العربية -كما ذكرنا سالفاً- ومحمد إبراهيم كامل يتبع الجناح العربى الآخر، وكل منهما تخلى عن دوره المصرى، ثم كتبا مذكراتهما فيما بعد مبرئين ساحتهما. ونجد أن إبراهيم كامل قد اختاره السادات كرفيق كفاح قديم فى سنوات شبابهما، إلا أن «كامل» التحق بالخارجية وتدرج بها إلى أن اختاره السادات وزيراً بعد استقالة سلفه إسماعيل فهمى، أى إنه قد قبل الوزارة وهو يعلم متطلبات الظرف، ومع ذلك نجد أنه فى مذكراته يروى قصة بطلها نبيل العربى الذى استعرض وجهة نظره فى السادات، لكن «كامل» يقول: كان نبيل العربى مدير الإدارة القانونية بالخارجية وكانت هناك خطابات متبادلة بين السادات وكارتر بشأن القدس وكان منزعجاً ورجانى بإلحاح أن أذهب فوراً للرئيس السادات لأبلغه بأن هذه الخطابات ليس لها أى قيمة قانونية ولم أستطع أن أخبره أننى استقلت فقلت له بل اذهب أنت واشرح ذلك للرئيس من الناحية القانونية فأنت أقدر على ذلك، المهم أن العربى ذهب وعرض الرأى القانونى فيما يتعلق بالخطابات للسادات، الذى قال «تفضل بالشرح»، وعندما انتهى العربى من ذلك قال له الرئيس بصوت هادئ مهذب «هل لديك شىء آخر تريد أن تعرضه علىّ»، فقال «لا سيادة الرئيس»، فقال السادات «إذن، اسمع ما سأقوله لك.. لقد استمعت إليك كما رأيت دون مقاطعة من أجل ألّا يقول أحد إنى لا أستمع ولا أقرأ كما يشيعون عنى، ولكن اعلم أن كل ما قلته لى قد دخل من أذنى اليمنى وخرج من اليسرى، إنكم فى وزارة الخارجية تظنون أنكم تفهمون فى السياسة ولكنكم لا تفهمون شيئاً على الإطلاق ولن أُعير كلامكم أو مذكراتكم أى التفات بعد ذلك لأننى رجل أعمل وفق استراتيجية عُليا لا تستطيعون إدراكها أو فهمها ولست فى حاجة إلى تقاريركم السفسطائية الهايفة.. وزيركم محمد كامل يسب اليوم أمامى الرئيس كارتر، ألا يفهم أن كارتر هو الكارت الرئيسى الذى أحوزه لإقامة السلام الشامل».. وسكت الرئيس برهة ثم أضاف «ألا تعلم أن قريبك محمد حسنين هيكل (العربى وهيكل بينهما مصاهرة فهما «عدايل» وأيضاً ابن هيكل متزوج من ابنة العربى، ومن المفارقات أن جيهان السادات والدها ابن خالة والدة العربى)، يهاجمنى فى كل مكان ويتآمر على قلب نظام الحكم وأنا لا أبالى بما ينشره من أكاذيب وسخافات بدافع الحقد الأسود ولكنى لن أسكت عليه فى النهاية وستُقطع رقبته.. تفضل بالانصراف ولا تعودوا لتتعبوا رأسى وتضيعوا وقتى بأسانيدكم القانونية الفارغة (انتهى كلام كامل).