أعترف أن الذاكرة لم تسعفنى لحصر عدد الفنانات اللاتى عاصرت حادثة ارتدائهن الحجاب.. وما صاحبها من ضجة تتباين شدتها بتباين شهرتهن.. فمنهن من كان حدث الاعتزال وارتداء الحجاب خبراً صغيراً فى إحدى الصحف الفنية.. ومنهن من كان حدثاً يتم تداول تداعياته وآثاره بين الناس على المقاهى وفى الجلسات العامة والخاصة.. بل ويسير بين الناس همساً الكثير من الأقوال كأن الفنانة المعتزلة فلانة قد دعت وتحسبنت على كل من يشاهد أفلامها.. وأن الفنانة الأخرى طلبت من الإذاعة أن تمتنع عن بث أغنياتها العاطفية!!
الطريف أن الكثيرات منهن عدن لممارسة الفن مرة أخرى.. بعضهن عاد محتفظاً بالحجاب على رأسه.. وأخريات عدن بباروكة.. كغطاء رأس من نوع آخر لا أدرى مدى شرعيته أو حتى قيمته الدينية.. بمعزل عن شكله العجيب!
هى فى النهاية حرية شخصية للفنانة نفسها.. أو حتى قضية يمكن للمتفلسفين والنخبة من أصحاب نظريات علم الاجتماع اعتبارها معركة فكرية.. دارت جولاتها فى داخل أروقة المجتمع المصرى عبر عقود انتشار حركات الإسلام السياسى المطعمة بتأثيرات الوهابية التى أتت لنا فى حقائب العائدين من الخليج.. قضية لا يمكن أبداً أن تحتمل أكثر من هذا الإطار!
المشكلة هذه المرة أن الأمر تخطى كل ذلك بكثير.. فأصبحت عودة الفنانة المعتزلة حلا شيحة للفن وخلعها للحجاب معركة حقيقية بين فريقين.. كلاهما يسن أسلحته نحو الآخر.. وكلاهما يعترك من أجل الفوز بها لسبب لا يعلمه أحد!
عشرات الفيديوهات التى تبكى وتنتحب وكأن زلزالاً ضرب الإسلام نفسه.. مئات المناشدات الرقيقة من بعضهن اللاتى يمكن اعتبارهن قيادات فى تنظيمات الإسلام السياسى ورائدات فى فكر السلفية.. آلاف التعليقات ممن يدرك أبعاد الأمر أو لا يدركه.. أو حتى لا يعرف حلا شيحة نفسها ولا يذكر لها عملاً فنياً.. وفى المقابل ترحيب واحتفاء غير مسبوق بمن تركت الظلام وعادت للفكر المستنير!!
الفكرة هى قيمة الحدث بالمقارنة بما خلفه من توابع -حرفياً- هزت أوساط مجتمع متباين التوجهات وعظيم القيمة كالمجتمع المصرى.. إنها مجرد سيدة قررت أن تفعل شيئاً وفعلته.. ارتدت الحجاب لأنها اقتنعت بوجوبه.. ثم تغيرت القناعة فنزعته.. لم تكن رائدة جيلها من الفنانات مثلاً حتى يصبح اعتزالها خسارة فادحة للفن.. ولم ولن تكون علامة أو إشارة لانهيار الإسلام أو هزيمة الدين -بمعزل عن أن كل من يحاربون لعودتها بعيدون كل البعد عن الدين الذى أعرفه- لا أستبعد أن مناشدات الإخوة لها للعودة قد تحمل فى طياتها خوفاً مما تعرفه ويخشون إن عرفه الناس تقوض دعوتهم كلها أو حتى تتأثر بالسلب.. ولكن يبقى أنها ليست الأولى التى فعلت ذلك.. ولا أعتقد أن أمثالهم يثقون فى من انضم إليهم إلى هذا الحد!!
لقد تحولت الفنانة إلى قضية موظفة للصراع الأزلى بين توجهات التطرف اليمينى واليسارى فى مجتمع ما زال لا يدرك جوهر كليهما.. ولا يدرك جدوى الصراع نفسه!
فى النهاية.. ينبغى أن يدرك الفريقان أن الفن لم يكن أبداً المضاد اللغوى للدين.. فقط حاول البعض عبر عقود فى موجات فكرية ضربت جذور المجتمع المصرى المنهك أن يجعله كذلك.. الفن قيمة إنسانية نبيلة.. عانت من أصحابها قبل أعدائها.. وفى الوقت نفسه ينبغى ألا نزج بالحجاب كمضاد له.. وكمرادف للانتماء لجهة ما.. ولا ننكر فرضاً بحكم قاطع من الأزهر وشيوخ الاعتدال الذين أقدر مصداقيتهم وعلمهم.. وإنما ننكر معركة لا أرى لها وزناً حقيقياً سوى فى عقول ملأها الصدأ وقتلها الفراغ.. ولا أدرى هل ستكون آخر المعارك.. أم أن فى جعبتهم المزيد؟!