علم أهل الإسكندرية بأمر الحملة الفرنسية قبل غيرهم من المصريين، وصلت إليهم الأنباء بأن «عمارة فرنسية» أو أسطولاً من السفن الفرنسية تتحرك إليهم عبر الإنجليز الذين كانوا يراقبون عن كثب تحركات نابليون وجنوده، لكنهم لم يعلموا وجهتها على وجه التحديد. ورغم عدم وصول معلومات كاملة إلى الإنجليز عن الشاطئ الذى سترسو عليه سفن الحملة فى الختام، إلا أنهم توقعوا أن تكون الإسكندرية المحطة التى يستقر عندها الأسطول الفرنسى، تمهيداً لغزو مصر. والدليل على ذلك أنهم تحركوا بسرعة نحو شواطئ الثغر ووصلوا إليها قبل الفرنسيين.
يحكى «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» أنه فى يوم الأحد العاشر من محرم من عام 1213هـ (1789م) وردت مكاتبات على يد السعاة من ثغر الإسكندرية تقول إنه فى يوم الخميس من شهر المحرم الحرام وصل إلى الثغر 10 مراكب من مراكب الإنجليز، ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر، وبعد قليل حضر 15 مركباً أخرى، فانتظر أهل الثغر ماذا يريدون. وبينما كان أهل مصر يرقبون المشهد أبصروا سفينة صغيرة تقل 10 أفراد تسير نحو الشاطئ، فتأكدوا أن هذا الوفد سينبئهم بخبر تلك المراكب الإنجليزية التى تتدفق وراء بعضها البعض. وصل الوفد الإنجليزى إلى شواطئ الإسكندرية ودخل المدينة وطلب أعضاؤه الاجتماع بكبار البلد. يقول «الجبرتى»: «وكان الرئيس إذ ذاك والمشار إليه بالإبرام والنقض السيد محمد كريم».
فى هذه اللحظة ظهر القائد السكندرى على مسرح الأحداث، وقد كان كما يصفه «الجبرتى» حاكماً للمدينة، بتفويض من المماليك حكام البلد. سأل «كريم» الوفد عن غرضهم من الحضور، وأسباب تحرك المراكب الإنجليزية نحو شواطئ الإسكندرية، فأخبروهم أنهم جاءوا للتفتيش عن الفرنسيين الذين خرجوا بأسطول ضخم «عمارة عظيمة»، ثم أردفوا: «فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنون من منعهم». لم يقبل السيد محمد كريم هذا الكلام وظن أنها مكيدة، وجاوب الوفد الإنجليزى بكلام خشن، قال له الوفد: «نحن نقف بمراكبنا فى البحر محافظين على الثغر. لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه، فلم يجيبوهم لذلك، وقال لهم محمد كريم: «هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل، فاذهبوا عنها». يقول «الجبرتى» بعد ذلك «فعندها عادت سفن الإنجليز وأقلعوا فى البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية وليقضى الله أمراً كان مفعولاً».
الحوار الذى دار بين الوفد الإنجليزى ومحمد كريم يحمل عدة دلالات، أولها أننا أمام رجل دولة، يؤمن بالشرعية، فهو حاكم نصّبه المماليك، الولاة الشرعيون للبلاد، والمماليك ولاهم السلطان القابع فى الآستانة، وهو الحاكم الأكبر الذى يملك الولاية الشرعية على مصر كونه سلطان المسلمين. وقد كان الرجل يعبّر فى ذلك عن سياق الظرف الذى كان يعيشه عام 1798. ثانيها أن محمد كريم كان يثق ثقة مبالغاً فيها فى قوة الدولة العثمانية وقدرتها على حماية الولايات التابعة لها ومن بينها مصر، وهى ثقة تعكس عدم وعى بحالة الضعف التى دبت فى أوصال هذه الدولة، بعد مرور عدة قرون على تأسيسها. ثالثة الدلالات أننا أمام رجل لا يجيد الحسابات السياسية، فقد رفض كلام الإنجليز رفضاً مطلقاً، وأبى أن يزودهم بالطعام والشراب بـ«ثمنه»، ولم ير فى الأمر أكثر من مكيدة، تجد تفسيرها فى الصراع المحتدم بين فرنسا وإنجلترا فى ذلك الوقت، وأن المراكب الإنجليزية هدفها البقاء على شواطئ الإسكندرية تمهيداً لاحتلالها.
ويؤيد ضعف قدرة محمد كريم على «الحسابات السياسية» الجملة التى ختم بها «الجبرتى» تفاصيل الحوار بين الوفد الإنجليزى و«كريم»: «ليقضى الله أمراً كان مفعولاً». وكأنه يريد أن يقول إن محمد كريم أخطأ التقدير حين تعامل بخشونة مع الوفد الإنجليزى، خصوصاً أن التجربة أثبتت فيما بعد أن الخطوة التى اتخذتها إنجلترا بتحطيم الأسطول الفرنسى فى موقعة أبى قير البحرية كانت من الأسباب المباشرة التى أدت إلى خروج الحملة من مصر. الدلالة الرابعة -وهى الأخطر من وجهة نظرى- أن محمد كريم كان كغيره من المصريين غير محيط بالتطور الذى أصاب أوروبا على مستوى التسليح وأساليب ومعدات القتال، وكان يعيش فى الماضى المجيد الذى كان يمثل فيه المسلمون القوة القاهرة على الأرض. ولعل الصدمة الحضارية التى أحدثتها الحملة الفرنسية فى الوجدان المصرى هى أكبر ميزة لها، حين ساعدتهم على اكتشاف الفجوة الكبرى بين مصر والمحيط الإسلامى الذى تعيش فيه وأوروبا وما حدث فيها من تطورات وتحولات، خصوصاً بعد الثورة الفرنسية.