أسلوب التصادم مع ما هو مستقر من أفكار لدى الناس لا يؤدى إلى تغيير، بل يتسبّب فى اضطراب المجتمعات، ويولد حالة من الاستقطاب بين أفرادها، المسألة تحتاج قدراً من الأناة والوعى (الوعى التاريخى والوعى باللحظة المعيشة)، خصوصاً عندما يتصل الأمر بفكرة أو موضوع يدعمه نص له قدسيته لدى المؤمنين به، مثل القرآن الكريم.
بإمكانك أن تتأمل الطريقة التى تعامل بها المسلمون الأوائل والمتأخرون مع «سهم المؤلفة قلوبهم». فقد بدا -فى عهد النبى، صلى الله عليه وسلم- كوسيلة لجذب العرب، خصوصاً من القرشيين، إلى الإسلام، وأدى إلى تحولات واضحة فى مواقف الكثير من رؤوس القبائل المكية والعربية من الإسلام. والدليل على ذلك ما كان يردّده واحد من كبار المؤلفة قلوبهم، وهو «صفوان بن أمية»: «لقد أعطانى رسول الله، وهو أبغض الناس إلىّ، فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلىّ». وقد اختلفت الظروف بعد وفاة النبى، حين قويت شوكة المسلمين على جزيرة العرب، فكان التفكير فى تعليق العمل به.
قرّر «عمر» تعليق العمل بـ«سهم المؤلفة قلوبهم»، حين رأى فى نفسه حاكماً يسوس أمة، وليس نبياً يعالج النفوس مهتزة الإيمان، فهم «عمر» أن المسألة كانت مرتبطة بسياق معين وشخص محدّد، وأن الواجب بعد أن قويت شوكة الدولة أن يعلق العمل بهذا السهم، وكان يردّد قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». موقف «عمر» لم يرتبط بتوليه الخلافة، بل جهر به فى عهد «أبى بكر» وأقره الأخير عليه. فقد جاء رجلان من المؤلفة قلوبهم يطلبان من «أبى بكرٍ» أرضاً، فكتب لهما بذلك، فمرّا على «عمر»، فرأى الكتاب فمزّقه، وقال: هذا شىء كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يعطيكموه ليتألّفكم، والآن قد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم على الإسلام، وإلاّ فبيننا وبينكم السّيف، فرجعا إلى أبى بكرٍ، فقالا: ما ندرى: الخليفة أنت أم عمر؟ فقال: هو إن شاء، ووافقه.
ذلك ما يجب أن نعيه فى ما يتعلق بسهم المؤلفة قلوبهم على مستوى التاريخ، أما على مستوى اللحظة فأجد ضرورة فى الالتفات إلى أن المفهوم ما زال يحظى بتجليات وتطبيقات بين حكام الدول العربية والإسلامية، بل غيرهم أيضاً. ولو أنك تأملت صفقات الأسلحة «المليارية» التى يبرمها حكام عرب وحجم الاستثمارات التى يخصّصونها لدول دون أخرى، فستجد أن المصالح ومقتضيات السياسة الخارجية تفرضها، لكنها تعكس أيضاً وجهاً من وجوه «تأليف القلوب»، مما يعنى أن المفهوم ما زال سارياً، ولكن بطرق أخرى تبعاً لمقتضيات الظرف السياسى.
وإذا كان موضوع «المؤلفة قلوبهم» يضرب فى مساحة سياسية، تعتمد على التقلبات السريعة، فإن الأمر يختلف بالنسبة للمفاهيم التشريعية المتعلقة بمساحات اجتماعية، مثل موضوع الرق، الذى ظل قائماً فى دولة مثل مصر إلى عصر الخديو إسماعيل، حتى أحس الناس بتغيير الظروف الاجتماعية فتعاملوا معه كمفهوم غير مناسب للعصر، ويختلف الأمر أيضاً بالنسبة للمفاهيم التشريعية التى تضرب فى مساحات إنسانية، يتسم إيقاع التغيير فيها بالبطء الشديد، كما هو الحال فى موضوع «المواريث». التعامل هنا يجب ألا يتم بمنهجية التصادم والجور على المقدسات، بل يستلزم الأناة والوعى الكامل برحلة التعامل التاريخى مع هذا الملف والوعى بظروف اللحظة الحالية التى تحكمه.