لا أعرف متى وأين سئل نابليون بونابرت: لماذا لا نجد «عظماء» فى السلطة؟، ولكنى أعرف أنه أجاب بأن السبب أن التفاهة المطلقة هى اللازمة لكى تحصل على السلطة، ولكن العظمة الحقيقية هى الواجبة لممارسة السلطة.. وأعرف أيضاً أن هذه العبارة «واقعية» برغم ما فيها من مرارة صادمة.. قلائل بل نادرون من استطاعوا أن يجمعوا بين النقيضين: التفاهة، والعظمة!!
مرتقى التفاهة!
أيسر السبل، بالتفاهة، أن تصل إلى السلطة.. أى سلطة.. فالتفاهة ليست مرتقى صعباً.. ما على الآدمى إلا أن يخرج نفسه من منظومة القيم والوقار واحترام الذات، ليطلق للنفس الأمّارة الحبل على الغارب لتمارس التفاهة التى لا تكبدها عناءً ولا تقتضيها جهداً، وهى أسرع لدى الناس قبولاً لأنها أيسر تحصيلاً ما دامت تدغدغ المشاعر وتطلق الأوهام.. ما عليك إلا أن تكون «التفاهة» لسان خطابك وحال سلوكك وأفعالك!!
الدرقة المحيطة بالسلطة، أى سلطة، لا تحب أن تفسح سبيلاً للعظمة والعظماء لأنهم يقتطعون منها، والناس لا تميل ولا تُقْبل على العظمة والعظماء لأنها تنفر بطبعها من كل مقارنة تشعرها بالضآلة أو النقص أو الدونية!
مرتقى التفاهة إلى السلطة مرتقى سهل وميسور الوصول إلى مأربه.. وربما حسب المفسحون للتفاهة أنهم سيركبون صاحبها باكراً، فتُطمعهم تفاهته فى تحقيق أغراضهم ومآربهم.. هذا المرتقى السهل الميسور لا تحديات فيه ولا امتحانات، ولا صعاب ولا عراقيل، ولا قدرات أو مضامين!
بين سهولة الوصول وقدرة الممارسة
بيد أن سلاسة الوصول إلى السلطة، لا تعنى القدرة على ممارستها.. فالوصول إلى السلطة قد تجدى فيه التفاهة والتغرير، ولكن ممارسة السلطة مسئولية تحتاج إلى عظمة وقدرة، ولا تقبل التفاهة!. وهنا التحدى الكبير والمعضلة الصعبة.. فكيف يستطيع تافه أن يخرج من قمقم التفاهة إلى العظمة؟ وكيف يجتمع النقيضان فيجمع الفرد الواحد بين التفاهة والعظمة؟ وهل يمكن للتافه أو سالك ومعتاد التفاهة، أن يتعاظم فجأة فيرتفع إلى ما تحتاجه وتستوجبه السلطة وممارستها من قوة وشجاعة وحكمة ومقدرة وعلم ومعرفة وفن وشخصية؟.. إن هذه المقومات تصب فى نهر «العظمة».. والعظمة لا تنبت للفرد فجأة، وإنما هى مقومات محفورة فى نسيجه وشخصيته.. هذا المحفور أشبه بتضاريس الجغرافيا التى تخطها السنون والمناخ والبيئة والتربة، فى تفاعل لا يستغنى عن التوفيق، إلا صارت التضاريس خبطاً عشوائياً لا تشكل شيئاً ذا قيمة، وهكذا كل تافه يترك نفسه وتكوينه ومساره للمقادير.
الذين تورموا فى التاريخ
تورّمَ فى التاريخ أشخاص لو درست تاريخهم بموضوعية وإمعان، لعرفت أن كلاً منهم مارس كل أنواع التفاهة والخداع والديماجوجية والانتهازية والتغرير واللعب بالإعلام وبمشاعر البسطاء ليصل إلى السلطة التى قفز عليها، فلما وصل إليها لم يستطع أن يكون عظيماً عظمة حقيقية تواكب مقتضيات ولوازم السلطة فانتهت حياته نهاية مأساوية! لأنه ظل فى جميع ممارساته مشدوداً لما اعتاده من أساليب وإن خدعت وفتحت الأبواب لركوب السلطة، إلاّ أنها لا تصادف ولا تصادق العظمة الحقيقية الضرورية الواجبة لممارستها وحسن إدارة وتصريف الأمور!
مشاهير بلا قدرة ولا استحقاق!
ما يصدق على المتورمين فى التاريخ، له أمثلة عديدة فى تاريخ العاديين والصغار على السواء.. تستطيع أن تجد مشاهير بلا قدرة ولا استحقاق، وتستطيع أن ترى فى الصغار نماذج بالآلاف لا حصر لها.. لمعوا ثم انطفأوا بسرعة أقرب إلى احتراقات النيازك والشهب.. والسبب أن التفاهة تستطيع أن تضحك على بعض الناس بعض الوقت، ولكنها لا يمكن أن تنطلى على كل الناس طول الوقت.. والعيون التى تفسح الطريق لطالب السلطة عيون ضريرة، لأنها معلقة بالأوهام، مخدورة بحبكة الحيل وتغرير الخدع والأكاذيب.. ولكن هذه العيون ينكشف عنها الغطاء وهى تتابع وتراقب ممارسة السلطة، وهى مراقبة يفرضها انتظار الموعود.. فإذا تأخر، تفنجلت العيون وأبعدت أكثر، ولم يعد أمام صاحب السلطة للمحافظة على ما تحقق له، إلا أن يستعير «عظمة» من المحال أن تكون محلاً لاقتراض أو إقراض!
عِبَر من التاريخ!
لم يكن «هتلر» عظيماً وهو فى السلطة، وجر الخراب والهلاك على بلاده وعلى العالم، ثم حاق به ما فعله، فأنهى حياته وعشيقته انتحاراً!
ولم يكن «موسولينى» عظيماً وهو فى السلطة، واعتنق وتبنى فاشية أوردت بلاده موارد التهلكة، وأعدم بعد إهانته فى زفة، وعلقت جثته من أقوامه، وتبادل مواطنوه إعادة ضرب جثته بالنيران، وإلقائها بالأحجار، وضربها بالأحذية والنعال.
ولم يكن يزيد بن معاوية عظيماً وهو فى السلطة، فقد أمضاها فى اللهو والصيد والعبث، وأنهاها بقتل الحسين قتلة بشعة فى كربلاء، باء بها وبوزرها فى التاريخ، وعليه وشركاؤه حسابها يوم الدين!
وكان نيلسون مانديلا عظيماً وهو سجين لثمانية وعشرين عاماً، ضرب فيها المثال الحقيقى للصبر والجلد والعظمة، ثم بقى عظيماً حين تولى السلطة فى جنوب أفريقيا، فضرب لبلاده وللعالم أوفى الأمثلة للعظمة التى لم تغادر شخصيته سجيناً أو حاكماً!
وكان سوار الذهب عظيماً وهو يغادر رئاسة السودان باختياره وإصراره، ليضرب مثلاً بقى عنواناً له، وظل عظيماً ومحل توقير واحترام الجميع وهو خارج السلطة!
كان أمين الأمة، أبوعبيدة بن الجراح عظيماً وهو خارج السلطة، أشار به أبوبكر الصديق على من سألوه النصيحة فيمن يتولاهم، فقال لهم: «عليكم بالهيّن الليّن، الذى إذا ظُلم لم يَظْلم، وإذا أُسىء إليه غفر، وإذا قُطع وصله رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين. عليكم بأبى عبيدة بن الجراح».
وكان «أبوعبيدة» عظيماً وهو خارج السلطة، حين امتص بحلم وحكمة رغبة عمرو بن العاص فى الإمارة بذات السلاسل، واعتذر لكبار الصحابة الذين أصروا على إمارته هو لعلمه وسابقته، ثم قال لعمرو إنه ليذكر للرسول عليه الصلاة والسلام أنه نصحه حين بعث به أميراً على كبار المهاجرين والأنصار إلى ذات السلاسل: «تطاوعا ولا تختلفا». وقال لعمرو: وأنت إن عصيتنى طاوعتك.
وكان «أبوعبيدة» عظيماً وهو خارج السلطة، حين رفض الخلافة يوم اقترح عمر بن الخطاب مبايعته يوم سقيفة بنى ساعدة، فنهره وذكر أن «الصدّيق» أولى بذلك وأجدر. وكان عظيماً وهو يرتضى وهو من هو، أن يخرج جندياً تحت إمرة الشاب أسامة بن زيد بن حارثة، إلى أُبْنَى.
وكان عظيماً حين أتاه أمر عمر بن الخطاب بتولى القيادة العامة فى اليرموك، فأخفى الخبر وترك لخالد بن الوليد القيادة عن طيب خاطر، فلما عاتبه حين علم لماذا لم يخبره، قال: «لم أشأ أن أكسر عليك حربك. نحن فى الله إخوة. ما الدنيا نريد، ولا للدنيا نسعى». وبقى عظيماً لم يتغير، وهو أمير الأمراء بالشام، فلا يبين أنه أمير وسط أجناده، ويذوب تواضعاً لمن حوله دون أن يفارق حزمه وحنكته فى القيادة.
وكان خالد بن الوليد عظيماً وهو يقبل العزل الأول الذى أمر به «عمر»، ثم كان أعمق عظمة حين قبل العزل الثانى وتجريده حتى من نصف ماله حتى نعليه، ثم كان أكثر وأعمق عظمة فى سنوات العزلة التى لم يتحرك فيها لكيدٍ ولا لشغبٍ ولا لوقيعة، ولو شاء بعد ذلك لكان له مطمع فيه، وهو القائد الذى طبقت شهرته ومكانته آفاق المسلمين وغير المسلمين!
هل حلت أو يمكن أن تحل التفاهة مكان القدرة والكفاءة والعظمة الحقيقية؟!.. لا يحدث ذلك إن حدث إلاّ فى العدسات اللامة لعيون ضريرة بلا رؤية ولا بصيرة.. ولا ينطلى إلاّ على تعاريج نفوس ضامرة ملهية بالأضغاث مخدورة بالخدع والأحابيل.. من المؤسف أن أحداً لم يعد يتعظ من دروس التاريخ ليستمر التأرجح الدائم فى لعبة السلطة، بين التفاهة السهلة الشائعة، والعظمة العزيزة النادرة!