بعد سنوات من تولى الوالى محمد على لحكم مصر، حدث تغير كبير فى طريقة وضوء الناس، بنى محمد على مسجده الكبير، وكان المدهش أنه فى مكان الوضوء مد مواسير للماء الجارى ينتهى كل منها بصنبور!، كان ذلك أمراً مختلفاً عن ما اعتاد عليه المسلمون طوال ١٣ قرناً تقريباً، كانوا يتوضأون من مياه الآبار بطريقة أخرى.. اختلف فقهاء المذاهب الأربعة، وكانت الأغلبية تميل لرفض الوضوء بهذه الطريقة الجديدة! لم يجز هذه الطريقة سوى أقلية هم الأحناف أو فقهاء المذهب الحنفى.. لذلك حمل صنبور المياه الشهير اسمهم، وأصبحنا نعرفه باسم (الحنفية)!، الأكيد أن الأغلبية اتهمت الأحناف وقتها بمخالفة الدين، والابتداع، ومفارقة صحيح الشرع، والدليل أنهم أقلية، لكننا بعد قليل ومع تطور الزمن نسينا هذه الآراء تماماً.. ونسينا أن الوضوء بالمياه الجارية كان محرماً.. وأطلقنا على صنبور المياه اسم أولئك الذين تمتعوا بالشجاعة الواجبة كى يطلقوا فتوى تتماشى مع روح العصر..
ما حدث مع الحنفية حدث قبله بعشرات السنوات مع (البن).. عرف المصريون البن من خلال التجار اليمنيين فى العصر العثمانى، وافتتنوا به، وانتشرت دكاكين مخصصة لشرب البن حملت فيما بعد اسم (القهوة)، أو (المقهى).. لكن الفقهاء حرموه، ونشبت معركة فقهية حامية، واستغرق الأمر سنوات وسنوات حتى تم إقرار شرب القهوة، انتصرت فتوى الإباحة لا لشىء إلا لأنها كانت متماشية مع روح العصر ومع حقائق الزمن.
نفس الأمر حدث مع قضية كبيرة أخرى هى إلغاء الرق، لا يعرف الكثيرون أن العبيد كانوا يعيشون بيننا حتى تولى الخديو إسماعيل حكم مصر ١٨٦٠، كان لوجودهم أسانيد دينية أكيدة، ذكر القرآن (ملك اليمين) والعبيد عشرات المرات، كان (تحرير رقبة) إحدى الكفارات الأكيدة للذنوب، وكان القرآن يتحدث أيضاً عن (ملك اليمين)، لكن إسماعيل باشا امتلك شجاعة مجاراة العصر، أدرك ومعه فقهاء عصره أن ما كان عادياً منذ قرون لم يعد عادياً الآن، أدرك أن استمرار الرق من شأنه أن يسىء للإسلام أكثر من أى شىء آخر، وانتصر اجتهاده، واجتهاد علماء عصره لأنه كان متماشياً مع روح العصر ومع حقائق الزمن، من أجل كل هذا، ومن أجل أشياء كثيرة أخرى، أنا لا أخاف من الدعوة إلى الاجتهاد فى المساواة بين الرجل والمرأة فى المواريث وفى أمور كثيرة أخرى، بل وأدعو إليه، لأن هذا هو ما يتماشى مع روح العصر، ومع حقائق الحياة، وليكن لنا فى فتوى (الحنفية) أسوة حسنة.