نامت عيونٌ في غفلةٍ وباتت عيونٌ من الشوقِ يقظانة، سكن الليل بين أضلع النجوم وأنار القمر ظلمات القلوب، وتخلل النسيم عبارات الشجن، وشهقت الأبصار وتهيأت القلوب ورفرفت الأرواح بين السماء والأرض، فما للصحراء الجرداء أن تنبع منها بئرًا كلما يرتوي منها الناس تزداد وتحلو، وما لأرضٍ لا تدبُ بها قدمٌ تتزاحمُ عليها الأوطانُ!!
أرضٌ واحدة تجمعُ بين شتى أجناسِ البشر وطن صغير نحلم لو دام أكثر، وطنٌ افتقدنا معناه كثيرًا، وطنٌ لا يحملُ بداخلِه إلا قلوبًا خالصةً كملابسهم البيضاء، ألا أن لباس التقوى هو من سيزف بصاحبِه لصدرِ أمه رضيعًا على فطرةٍ نقية، رداءٌ واحد وقولٌ واحد جمعهم ربهم على صعيدٍ واحد لهدفٍ واحد، يلبون نداء ربهم ويرددون مناجين ومجيبين تزدان ألسنتهم حين تعلو بها ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
مشهد تشهق الأبصار وتتوقف العَبَارات عند إبصاره وكأنه يوم الحشر! فتهرب دمعتك من موطنها لتُبصر فتبكي الدمعة وكأن بداخلها فيض من الدموع! اشتقنا لتلك الضمة التي تنزع الحمل من داخلنا، ولتلك النهدة التي كنا ننتظرها لتُخلصنا من عفر الدنيا الذي ساد قلوبنا، لنظرة لطف لا يواسيها ثمن ولا تزنها بميزان.
كم اجتاح قلوبنا القسوة على من نفخ الروح فينا! كم طلبنا من منازل الدنيا فتناسينا المنزل الأعلى والأبقى! ألم تطلب رضا الناس وتناسيت من أحق بالرضا منهم؟! فاليوم أحق يومًا أن تجلس مع نفسك مؤنِسًا بها تتذكر أفعالك وأقوالك وتقرر، هو أحق يومًا أن تبتعد عن الدنيا وترفع يداك لله، أوليس هو أحق بوقتك وهو أحق بحياتك؟!
ألا تحرك الكلمات فيك شيء؟! أين دمعتك ومتى تنتظر لتفرج عنها لتريحك مما أنت فيه؟! ألا تخشاه وهو ينظر إليك اليوم ينتظر عودتك إليه وأنت لا تُبالي! فلتعلم أن من خاف شيئًا فر منه ومن خاف من الله فر إليه! فأي راحة للقلب وسعادة تساوي تلك اللحظة التي تفر فيها إليه!
كنت رضيعًا على الفطرة شكلتك الدنيا كيفما تشاء وتركت روحك تنسحب منك وتحكمت نفسك بقيادة شيطانها فأصبحتَ طائعًا لرغباته سعيدًا بنشوته فحين تأكد من كونك تلميذ يُعتمد عليه فتُركت وعُينت على نفسك شيطانًا يسري بين الخلائق ليمضوا على خُطاه فأصبحت أشد منه عداوةً وقبحًا رُغم ما كنت عليه من حُسن الخلق، بدلت الأمور وتلاعبت بالأصول تزرع بغيرك ما حصدته من نفسك، تثيرهم بالأضواء وتحقنهم بالنقمة على حالهم لتشغلهم عن مبادئهم، تثير غرائزهم بما يجيع مفاتنهم، فتكن من يصنع الشر بأعين الناس!!
ها نحن بين لحظات بمقدورها أن تقلب حياة كلًا منا رأسًا على عقب، فاليقين هو الفارق والمؤمن بها هو الرابح، فيوم عرفة دمعة فيه تكسبك ابتسامة، "فنحن صنعة الله وهو غَيب فمعالجة أي عطب بها غيب "الإمام الشعراوي"، فالسعادة الغيبية تنبت بداخلنا إذا تكاملت معاني الإيمانِ بنا. هناك صوتًا دومًا ينادي من بعيد ليقترب مُنتظرًا قرار العودة وتبديل المسار، فقد يتغير العالم من حولك ولكن تغييرك لن يأتي إلا منك، سباقٌ مُستمر لآخر لحظه لن يربح فيه إلا من غرس الفسيلة وسعى ثم ترك الباقي لمدبر أمره، فالحياة شريط متواصل وحلقاته متشابكه، فلا توبة تدوم دون تغيير ولا رزق يأتي بلا عمل ولا عمل يكتمل بلا قرار وهمة!! ولن تُنعمَ الدنيا عليك بفضلها ولا الآخرة بنعيمها إلا إذا سعيت لرضا صانعها؛ فأنت أعلم بما يُرضيه! فأعمل ما يحلو لك ولكن انتظر فستأتي لحظة لتجني جزاء ما عملت.