عندما زاد الحنين وبدأ يهاجم القلب بعنف، جاء القرار بالرحيل، حزمت أم رسمى حقائبها، وتجولت فى خان الخليلى لتشترى العبايات المصرية والجلباب الرجالى وبعض الهدايا الفضية لصغيرها الذى أصبح جداً منذ أربعة أعوام، عندما رُزقت ابنته بأول مولود لها، ولم تشهد هذا الحفيد أم رسمى التى قالت لى: أتوق لاحتضانه وشم رائحته، فالأطفال لهم رائحة ساحرة. وسألتنى: «هل تكون هذه الرائحة خاصة بالملائكة أم بالجنة؟». وضحكت وهى تخفى دموعاً لا تدرى هل هى دموع الفرح للقاء المنتظر، أم دموع وداع مصر وابنتها وأسرتها التى عاشت معها هنا سنوات اللجوء والخوف من الدمار والنيران والقصف الذى لا يتوقف، والكهرباء التى تتدلل وتختفى لأيام، والمياه التى يبحثون عنها دون جدوى، بعد أن دمرت الصواريخ البنية التحتية، وأصبحت المدينة تبكى الجمال السابق.
عرفتها ذات وجه يحمل مفاتن لا تخطئها العين، تقترب من الثمانين، لكنها اعتادت الأناقة والحس الرقيق والمجاملة والكلمات التى تسلب الإنسان مشاعره وتدفعه نحوها فى ارتباط جميل. عرفتها واعتدت أن أتناول معها قهوة الصباح فى فنجان يحمل نفس سماتها وكأنه قطعة منها، ومعه قطعة الحلوى السورية، فقد ظلت متمسكة بها تشبثاً بالوطن، ولتعطى نفسها إيحاء بأن الحياة كما هى لم تتغير وأن جلسة القهوة الحمصية والأرجيلة هى نفسها لم تتغير. وحتى لا تنسى ذكرياتها الخاصة اصطحبتها معها، وسكنت صورة الحبيب الذى قضت معه الحياة كلها فوق جدار الغرفة القاهرية والأبناء فى طفولتهم، ووضعت صورة حديقتها خلفية على هاتفها المحمول، لتنظر إليها كلما سمعت نداء إحدى الصديقات أو الأهل، وكأنها جالسة فى شرفتها فى «حمص»، مدينتها التى تركتها مرغمة مذعورة، متدثرة بالمعطف الذى اشتراه لها الحبيب الراحل من مدينة بيروت التى كانت نزهتهم الأسبوعية، إلا أنهم الآن لا يدخلونها إلا بتأشيرة أمنية مسبقة. وعادت أم رسمى تمسح دموعاً لم تستطع التحكم فيها وهى تقول: «بعد أن حُرمنا من أوطاننا انقسمت الأسر إلى فريقين، الكبار يريدون العودة لأحضان الوطن لترميم ما تأذى من تاريخ وحياة ومشاعر، والشباب يريدون استئناف الحياة كما بدأوا فى بلدان اللجوء». وهذا ما حصلنا عليه من مكاسب وغنائم الحروب: حنين وشوق وحرمان ولهفة وانقسام وطلبات لمّ الشمل وطوابير أمام السفارات وعلى أبواب مصلحة الجوازات وأحلام بالحصول على تأشيرة دخول أو ختم موافقة أمنية. وتساءلت: أمن غنائم الحرب أن تتبدل مفرداتنا اللغوية ومشاعرنا واتجاهاتنا القومية وطرز ثيابنا ولحظات الفرح والحزن وطقوسها؟ أليس هذا هو النظام العالمى الجديد وخريطة الطريق الكاذبة التى تريد أن تمحو آثار أقدام أجدادنا وتهدم مدارسنا التى تعلمنا فيها حب الوطن والقومية والوحدة العربية، لتضع مناهج دراسية دولية لأحفادنا تقول إن العالم قرية واحدة صغيرة، ولذا لا بد أن نتلصص على بعضنا البعض ونسجل مكالماتنا الخاصة لنفشى الأسرار ونقبض الثمن تحويلات بنكية توضع فى بلدان لا تعترف إلا بالدولار. وفى وداعها أعطتنى ما أذكرها به، وأكدت لى أنها ستعود، فقد شربت من ماء النيل فلا بد أن تعود إليه مرة أخرى. وتأكدت فى تلك اللحظة أن من اشترى لها تذكرة الطائرة هو الحنين.