فى مصر حالياً جهاز إدارى يضم نحو سبعة ملايين مواطن لا تحتاج الدولة منهم إلا نحو نصف المليون موظف.
وفى مصر حالياً جامعات حكومية تضم ملايين الطلاب والموظفين والمعيدين والدكاترة لا تحتاج الدولة منهم أى شخص سوى السادة رؤساء الجامعات وبعض السادة العمداء لأنهم الوحيدون الذين يختارهم النظام بنفسه ولنفسه!
وفى مصر حالياً مئات الآلاف من المدارس والأبنية التعليمية وعدة ملايين من السادة الموظفين والمدرسين والموجهين لا تحتاج الدولة منهم سوى مدارس أو فصول الصف الأول الابتدائى ورياض الأطفال وفق برنامج إصلاح التعليم الذى يبدأ فى العام الدراسى الجديد.
وفى مصر حشود من الخارجين على القانون تضم عصابات البلطجة والمخدرات والدعارة والسرقة والتزوير والتهريب والرشوة والاقتصاد الأسود والمبانى المخالفة والاستيلاء على أراضى الدولة والغش التجارى والصناعى والتهرب الضريبى وخطف الأطفال والكبار والابتزاز.. إلخ إلخ.
وفى مصر ملايين العشوائيين والباعة الجائلين والمتسولين والدراويش والمتشردين والعاطلين والأميين وذوى العاهات والكومبارس الصامت والمتكلم على هوامش كل المدن والقرى والنجوع والأحياء.
لو أحصيت البشر الصالح للاندماج فى مشروع الدولة المصرية الحديثة لن تجد أكثر من عشرة ملايين شخص على أفضل تقدير، ولن تجد حلاً للتسعين مليوناً الآخرين إلا الرحيل الجسدى بالهجرة أو الرحيل النهائى بالموت.
لو تجاهلنا كل ما سبق والتزمنا بحق كل مواطن فى الحياة والتعليم والصحة والعمل وسائر حقوق الإنسان فإن الدولة لن تتمكن على الإطلاق من توفير هذه الحقوق لكل الناس لأن مواردها لا تكفى ولأن سياساتها الاقتصادية والاجتماعية طوال العقود الأربعة الماضية تجاهلت العدالة الاجتماعية وخلقت فساداً وظلماً بلا حدود، ويستحيل على النظام الحالى القضاء على هذا الفساد واستعادة العدل الاجتماعى بالإمكانيات الاقتصادية والسياسية المتاحة حالياً، ويستحيل أيضاً مطالبة النظام الحالى باتخاذ إجراءات ثورية مثل التأميم أو التحول الاشتراكى لأن أحوالنا وعصرنا وظروف الداخل والخارج تختلف تماماً عن ظروف عصر «عبدالناصر»، ولو افترضنا أن النظام المصرى الحالى أوقف كل المشروعات وخصص كل موارد الدولة لإصلاح أحوال الناس فإن هذه الموارد لن تكفى لإصلاح التعليم والصحة والأجور ونشر العدالة الحقيقية بين كل طوائف وطبقات المجتمع المصرى.
المشكلة الأكبر أن وجهاء المصريين يتجاهلون الواقع المرير الذى فرضته سياسات وعشوائيات النظم السابقة على عموم القطر المصرى ويتجهون إلى تشريعات عقابية بلا عقل ولا منطق ضد ضحايا لا ذنب لهم فيما يعانون من عدمية تدفعهم لارتكاب جرائم ومخالفات يقع معظمها على عاتق الدولة والمجتمع قبل أن يصل إلى الشخص المتورط فى أى منها. لدينا -مثلاً- ملايين الشباب من الدارسين فى شتى الكليات والمعاهد العليا والتعليم الفنى، وخريجى الجامعات الذين فشلوا فى الحصول على فرصة عمل حتى الآن، وهناك آخرون حصلوا على وظائف مؤقتة يمكن طردهم منها فى أى وقت وفق شروط صاحب أو جهة العمل، كل هذه الفئات -وغيرها- لا تملك الحاضر الآمن أو المستقبل الآدمى، فكيف تطالب إحدى نائبات البرلمان بتشريع يعرضهم للسجن إذا تم ضبط أحدهم متلبساً بالزواج العرفى؟ أليس كل هؤلاء أو معظمهم ضحايا للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فى هذا الوطن؟ هل نطلب منهم الاعتكاف أو التحلى بأخلاق الملائكة بينما نحن صانعو أزمتهم؟ هل حصل أحدهم على وظيفة مرموقة أو أمل فى المستقبل ثم ترك كل هذا ولجأ إلى علاقة مشبوهة أو مشوهة مع زميلة من زميلاته؟ وهل لدينا فى مصر شباب صالح مادياً واجتماعياً للزواج الرسمى من ملايين الفتيات اللائى بلغن سن الزواج؟