حكم الخالق الأعظم على إبليس بالخروج من الجنة. «قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ». ويذهب الطبرى إلى أن كلمة «منها» فى الآية الكريمة دالة على الجنة، ويتفق معه فى ذلك كل المفسرين. وفى المقابل قطع إبليس على نفسه عهداً أمام الله بغواية بنى آدم حتى يروغوا عن عبادة الخالق «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ». ويقع الخطاب التأويلى بعد ذلك فى مأزق عندما يستطرد فى شرح قصة إبليس، وذلك فى الموضع الذى يتناول فيه واقعة سقوط آدم فى المعصية وأكله من الشجرة التى منعه الله إياها، بعد أن أغراه الشيطان بذلك. فكيف دخل إبليس الجنة بعد أن طُرد منها؟!. تلك واحدة من الإشكاليات التأويلية الكبرى التى واجهت المفسرين، وكانت موضعاً لاهتمام واحد من كبار مفكرينا، وهو الدكتور محمد أحمد خلف الله، الذى طرح هذه الإشكالية فى كتابه «الفن القصصى فى القرآن الكريم»، واستند إليها الكاتب -هى وغيرها من الإشكاليات الشبيهة- إلى نظرية جديدة فى فهم القصص القرآنى، حين ربطه بفكرة «الأمثال».
أراد «خلف الله» من خلال النظرية التى طرحها حل إشكالية «إبليس الذى خرج من الجنة ثم عاد إليها»، وغيرها من الإشكاليات الشبيهة فى القصص القرآنى من خلال فرضية أن القصص القرآنى يجمع بين الحقيقة والمجاز، وأنه فى كل الأحوال يستهدف شرح الحق وتبيينه للناس. وقياساً على ذلك يمكن النظر إلى هذه الإشكالية التى حيرت المفسرين فيما سبق حين توقفوا أمام «إبليس» الذى حكم الله عليه بالطرد من الفردوس، ليظهر بعدها فجأة وهو يوسوس لآدم داخل الجنة، ويغريه بالأكل من الشجرة. افترض المفسرون عدة تأويلات لتفسير دخول آدم إلى الجنة من جديد، التأويل الأول أنه دخل الجنة من خلال «الحية» التى ابتلعته واختبأ فى جوفها حتى دخلت به الجنة، فخرج منها ووسوس لآدم، الثانى أن يكون إبليس دخل الجنة فى صورة دابة، الثالث أن يكون آدم وحواء كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس إليهما، أما الوجه الرابع فيفترض أن إبليس كان فى الأرض وأوصل الوسوسة إليهما فى الجنة. وقد أنكر بعض المفسرين الوجه الرابع وقالوا إن هذا بعيد لأن الوسوسة كلام خفى والكلام الخفى لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء.
ولست أجد مبرراً فى إنكار المفسرين الوجه الرابع لتفسير خروج آدم من الجنة والذى يذهب إلى أن الشيطان وسوس لآدم بشكل خفى حتى أغراه بالأكل من الشجرة. فكيف ينكر هؤلاء هذا الطرح وهم يقرأون فى كتاب الله: «إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ». فالشيطان يتسلل إلى الإنسان فى شكل خفى، وفى حين يستطيع إبليس رؤية بنى آدم، فإن الأخير ليس بمقدوره رؤيته. وذلك معنى «الوسوسة» ككلام خفى. أغلب الظن -والله أعلم- أن المفسرين هرولوا وراء التفسيرات التوراتية فاندفعوا إلى سرد قصص مفسرة لدخول إبليس إلى الجنة من خلال الحية أو عبر التنكر فى شكل دابة ثم الوسوسة لآدم، رغم أن المعنى القرآنى واضح فى أن عملية الوسوسة تمت عن بعد، ولم تكن تحتمل الرؤية المشتركة، بل كان إبليس يرى آدم، فى حين أن آدم لا يراه. يتساند مع ما أذهب إليه أيضاً تحليل الآية الكريمة التى تقول «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ». فألف التثنية فى الآية تدلل على أن الخطاب كان موجهاً لكل من آدم وحواء بعد أن عصيا ربهما وأكلا من الشجرة. يقول صاحب «أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن»: «الظاهر أن ألف الاثنين فى قوله اهبطا راجعة إلى آدم وحواء المذكورين فى قوله «فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا»، خلافاً لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم، وأمره إياهما بالهبوط من الجنة المذكورة فى آية «طه» هذه جاء مبيناً فى غير هذا الموضع. كقوله فى سورة «البقرة»: «وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»، وقوله فيها أيضاً: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ». وفى هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن يقال: كيف جىء بصيغة الجمع فى قوله اهبطوا، فى «البقرة» و«الأعراف» وبصيغة التثنية فى «طه» فى قوله: «اهبطا» مع أنه أتبع صيغة التثنية فى «طه» بصيغة الجمع فى قوله «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى» وأظهر الأجوبة عندى عن ذلك: أن التثنية باعتبار آدم وحواء فقط، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما».