إلامَ ترجع الدقة فى تنفيذ التعهدات والاتفاقات والعقود فى التعامل المادى بين الناس.. وهل ترجع إلى أساس أخلاقى أو دينى مما تحث عليه الأخلاق والأديان، أم أن الغرض المطلوب من هذه الدقة هو ضمان استمرار التعامل وانتظامه والحد من احتمالاته ومخاطره؟ إذ بدون هذه الدقة يصبح التعامل مجازفة ومخاطرة ليس لها حدود ولا ضوابط.. مفتوحة على مصراعيها لنهب النهَّابين واحتيال وخداع النصّابين وخطف الخطّافين واللصوص!
ما يخلخل الجماعة!
المقطوع به أن شيوع هذا، أو طول حصوله، يخلخل الجماعة.. إذ يقهر الكثرة غير القادرة على مقاومة الخطافين والنهابين والنصابين وألاعيبهم وحيلهم ومخادعاتهم، بينما لا يحقق ذلك استقرار التعامل والأحوال.. وهو ما لا غناء عنه لحياة عموم البشر.
وهذا الافتراض مبنى على استقرار الأحوال فى الجماعة، فإذا اختلت انعدمت ثقة الناس بعضهم فى بعض، ولجأوا إلى الإسراف فى المزيد من الضمانات لتأمين الوفاء بالعهود والاتفاقات والعقود، من رهون وكفالات وتوثيق واشتراطات جزائية وتعويضية والانحراف بالشيكات من أداة وفاء تجرى مجرى النقود إلى أداة ائتمان، والتوسل بهذه الحيل ومثلها إيصالات الأمانة التى تخالف الواقع لجعل التهديد بالحبس سلاحاً لإرهاب الملتزم للوفاء بالتزامه المدنى الاتفاقى أو التعاقدى الذى لا علاقة له بالقانون الجنائى وما يفرضه من عقوبات.. وحين يزداد هذا الاختلال يتفشى انعدام الثقة وتصير أمثال هذه التأمينات غير كافية لضمان الوفاء، ولسيولة التعامل، فترتبك الأسواق، وتتعثر المشروعات، وترتفع الأسعار، ويؤدى الحرص على الوفاء الفورى لتلافى مخاطر الآجال، يؤدى إلى تراجع التفكير فى المشروعات الكبرى، التى لا سبيل لنجاحها ونموها إلا فى ظل الأمان والاجتهاد والدقة.. وهذا بذاته يدفع أيضاً إلى المزيد من التهاب الأسعار واستحكام الغلاء وشيوع المتلاعبين فى الأسواق وفى الصناعات والمصارف.. وتفقد الزراعة دورها الضرورى، ويستمر ارتفاع الأجور التى يلتهمها التضخم وانخفاض القوة الشرائية للنقود، ويعجز العاملون عن ملاحقة ارتفاع أسعار السلع وتكاليف المعيشة فتتفاقم المشكلات الاجتماعية بأنواعها إلى جوار المشكلات الاقتصادية.
الهجرة!!
وهجرة الناس فراراً من شدة الضائقة عارض من قديم فى ماضى الآدميين وحاضرهم.. وهذه الهجرة ما زالت حتى اليوم شاقة مع ضيق ذات اليد، وبرغم ذلك نرى كل يوم جماعات من الشباب يبتلعهم اليم فى مجازفات غير آمنة للوصول إلى هجرة غير مشروعة أجبرتهم عليها الضائقات المستحكمة التى عزت إزاءها لقمة العيش ناهيك عن المسكن والملبس وتكوين الأسر ونفقات العلاج والتعليم.. وما زالت هذه الضائقات التى رأينا عوادمها فى العشوائيات وفى مقالب الزبالة وأطفال الشوارع تتفاقم وتتتابع أصداؤها وآثارها فى هلاك الكثيرين من الأطفال والنساء والشيوخ.. بسبب التشرد والمجاعات والأوبئة التى لم تنقطع فى كثير من بلدان العالم الثالث.. ونعانى منها غير قليل فى بر مصر!!
مقاومة الضائقات
وبقاء من يقاوم هذه الضائقات الشديدة بلاء اعتاده هؤلاء وسلموا بوجوده وبما تتركه شدة الفاقة فى الأجسام والنفوس والعادات، وفى الذرارى والأجيال من الضعف أو الخمول أو التخلف.. وتمثلت آثار ذلك فى الانصراف إلى الأعمال والحرف الصغيرة بل وفى ابتداع خدمات لا تتطلبها حاجة بقدر ما يدفع إليها الفقر والبطالة من بحث عن أى سبيل للقمة العيش بدلاً من الانحراف وسلوك سبيل الجريمة.. وتظل هذه البيئات بما تعانيه من فاقة وضوائق شديدة أو ما تدرج عليه من العادات المتخلفة، تظل بؤراً للانحراف وللمجاعات والأوبئة.. يصعب التخلص منها بمعونة من داخلها.. ولا يجد أبناء هذه البؤَر بُدّاً من أن يحملوا الفاقة وآثارها على عاتقهم، وأن يستسلموا لمعيشة الفقر والجهل متلازمين لا يفترقان.. حتى ليستحيل أن تنجو هذه البيئات من بؤس وتعاسة ما هى فيه.
وتغيير الكيان الداخلى لهذه البيئات، يقتضى ممن يرغب فيه من أبنائها الذين تعلموا وتحضروا وفهموا يقتضى منهم إنفاق الأعمار والجهود والتكاتف الدائم الفعال الذى لا يعطله يأس أو يشعر به ملل.
ملاحظات تستوجب الالتفات
الملاحظات التى عرضنا بعضها، ملاحظات أساسية ليست سهلة الاستيعاب والامتصاص، وهى تتوه فى غمار وضجة وحرارة العواطف الوقتية التى يشب لفحها وينطفئ وتثور وتدور حول من يتزعمون إثارتها.. وهذه المشكلة أو تلك من المشاكل التى لا ينقطع تواليها وظهورها لدوام أسباب ظهورها وتواليها وإغفال أو غفلة المتزعمين والمزعومين عنها. إذ السائد فى زماننا قبول الضجيج والصياح والانسياق إلى هدير الجهلاء وذوى الأغراض وما يصخبون به وما يرغبون فيه، دون دراية بعواقبه السيئة فى الحاضر والمستقبل، على المجتمع وعلى الصاخبين أنفسهم!!
وقد يؤدى هذا إلى استسلام توافقى واصطبار فى غير موضعه على ما يرتكبه الجهلاء والأشرار والحمقى والإرهابيون ذوو المآرب والأغراض من عبث وجرح وقتل وتخريب وتدمير، بالإضافة إلى انعدام من يستطيع أن يجمع شمل شتات حسنى النية أو يحشد أغراضهم الخائرة أو يواجه قواهم المبعثرة إلى تحقيق رغاب ومشتهيات يقتضى تحقيقها أزماناً ممتدة ودراية عريضة ومشاركة فاعلة ومتابعة حيّة ومثابرة وأناة وطول نَفَس.
غياب الإدارة الكفؤة!
ومع أننا نرى هذه الجموع تساهم فى مد المشروعات بالعمال والفنيين والحرفيين، فإنهم لا يتأملون كيف قامت مشروعات المواصلات والطرق وقنوات الرى والصرف ومرافق الصحة والتعليم والأمن والإدارة ولا يلقون بالاً لضمان بقائها مؤدية لدورها وما أقيمت من أجله.. وقد لوحظ أنه ما إن ينفض الأجنبى المستعمر يده من هذه المشروعات حين جلائه، إلا وتصاب أمثال هذه المشروعات بكثير من السلبيات والقصور والتلفيات والأعطال على أيدى الخاملين والوصوليين ونهّازى الفرص، ويجتاحها الفساد والإهمال والرشوة والخلل والتحلل على أيدى الطامعين والمرتشين والمفسدين.. وشيئاً فشيئاً يتفاقم الخلل والتحلل والتعثر حتى تعود المجتمعات المتخلفة لتنشد جبر ما انفرط وإصلاح ما تعثر وتقديم الأدوات والخبرة التى عز تقديمها للنهوض بإدارة المشروعات طبقاً لأصول الإدارة والاقتصاد والتجارة ووسائل الصيانة والرعاية، مما يؤدى إلى تراكم الفقر بما يستتبعه من شقاء وتعاسة!
محاذير الدخول الأجنبى
ودخول الأجنبى، ليحل محل الوطنى، أو حتى ليعمل إلى جواره، ليس دخولاً خالص الأغراض، وإنما هو دخول مدخول.. وكثيراً ما يغطى بمعونات ظاهرية!! تستهلك فى الصرف على ذات الأجنبى الذى دخل بدعوى ترميم هذا أو ذاك من المشروعات أو إصلاحه أو القيام بإنشاءاته.
إن الميديا العالمية لا تتوانى فى بث إعلانات إلى العالم بأسره، أن هذه أو تلك من الدول ذات الحول والطول، تضطلع بحملات الإغاثة لملايين الجوعى والعرايا والمرضى والمعدمين، من الأطفال والنساء وكبار السن.. بإلقاء عبوات الطعام والكساء والدواء من الطائرات أو بواسطة قوافل تتوارى وراء ذلك من أجل التبشير، مستغلة أن دول الجوار تعجز لتخلفها هى الأخرى عن إسداء هذه الإغاثة لضحايا الفقر والجوع والمرض!
ويبدو أن حال الجماعات المتخلفة، يرجع إلى أن معظم أفرادها لم يفارقوا عاداتهم النفسية والفكرية القديمة.. البدائية الجاهلة الخاملة.. سواء فى العمل، أو فى حياتهم الخاصة والعامة.. وربما ساهم فى ذلك أنانية القلة التى فازت بالتعليم حاجبة عن الأغلبية الفقيرة ما يوقظ عقلها وروحها من عتامة الجهل والغفلة، وذلك حتى يسلس لها قياد الأغلبية الممتحنة بالفقر والجهل وقلة الحيلة والسيطرة عليها ولو بالتملق الزائف ودغدغة المشاعر بوعود الإصلاح والإنصاف والعدالة والإثراء!