لا الآباء أصبحوا آباء، ولا الأبناء أمسوا أبناء، ولا الأخلاق عادت أخلاقاً. جرائم شديدة الغرابة والشذوذ تضرب المجتمع المصرى فى الآونة الأخيرة. هى فى النهاية جرائم آحاد لا نستطيع أن نقول إنها تشكل ظاهرة، لكنها تحمل فى طياتها مؤشرات شديدة الخطورة على مستقبل هذا المجتمع. دعونا نتصالح بداية مع فكرة أن ترنح الأخلاق تظهر تداعياته أول ما تظهر فى الأجواء الاجتماعية، لتزحف بعد ذلك إلى مساحات أكبر، ويظهر صداها فى دوائر أوسع اقتصادية وسياسية.
كيف يفقد الإنسان أخلاقه؟
هذا سؤال يجدر بنا طرحه على هامش الجرائم الشاذة. عندما يموت الإحساس داخل الإنسان يفقد أخلاقه. فالإحساس أصل الأخلاق والرافد الأهم لتغذيتها. عندما يفقد الأب مشاعر الأبوة، أو الأم مشاعر الأمومة، أو الابن مشاعر البنوة، أو المتحرش مشاعر النخوة، أو الظالم مشاعر العطف، أو القوى مشاعر التواضع وخفض الجناح للضعيف، والسادر فى الغى مشاعر الخوف من الحساب، والفاسد مشاعر الخوف من القانون، والطاغى مشاعر الحذر من غضبة المظاليم، عندما تضمحل هذه المشاعر داخل نفوس أصحابها تضيع الأخلاق.
متى تموت المشاعر داخل الإنسان؟
قد تستغرب إذا قلت لك إن المشاعر تموت داخل النفوس عندما يسكنها النفاق. عندما يضرب النفاق مجتمعاً يتحول أناسه إلى مجموعة من الخشب المسندة. فأول درس يتعلمه المنافق أن ينحى مشاعره وأحاسيسه نحو البشر الذين يتعامل معهم جانباً، فيداهنهم ويكذب عليهم ويمتدح حكمتهم فى وقت يعتبرهم فيه أهبل مَن خلَق الله، ويتغزل فى رقتهم وهو الذى يراهم أفظاظاً غلاظاً. العلاقات الأسرية والاجتماعية والإنسانية التى يسودها النفاق ويسيطر عليها الكذب والمراوغة هى المقدمات الأولى لانهيار الأخلاق. المنافق صورة بلا عقل، وجسد بلا روح، وشكل بلا مضمون، قد يعجبك منظره، ويجذبك كلامه، لكنك لا تعلم أنه ينيم من حوله منتظراً اللحظة التى تصبح فيها الأجواء مهيأة ليظهر شيطانه ليعيث فى الأرض فساداً ويهتك كل الأخلاق ويرتكب أبشع الجرائم.
المجتمعات التى يسودها النفاق يتحول فيها البشر إلى تماثيل فاقدة الإحساس ضائعة العقل. وأشكال ووسائل ضياع العقل والإحساس عديدة، المخدرات وسيلة سهلة وقصيرة، ونزع الكرامة أداة، وركل القيم ووطؤها بالأقدام سبيل، وإعلاء المال على ما عداه من معطيات الحياة طريق سهل. هذه الوسائل والأدوات والسبل والطرق تأخذ بيد صاحبها إلى الحالة التى يمكن وصفها بـ«الحالة الخشبية» يصير معها البشر مجموعة من الخُشُب المسندة «يحسبون كل صيحة عليهم»، قطعة الخشب لا عقل لها ولا إحساس ولا مشاعر، ولأنها كذلك فهى قابلة للتشكّل فى أى صورة يرضاها صانعها، مثلها مثل المنافق الذى يجيد التشكل فى الصورة التى يريده عليها سيده، أياً كان هذا السيد (الزوج، الزوجة، الابن، الجار، الصاحب، الشريك، رئيسه فى العمل)، انتظاراً للحظة معينة يطلق فيها قذائف نفسه الضائعة على هذا السيد. هنالك يقتل الأب ابنه، والأم وليدها، والابن أباه وأمه، يسرق ويهرّب ويفعل كل شىء، لأنه فقد الإحساس بأى شىء، والبركة فى «النفاق».