١ - كثيراً ما يتكرر الموقف ذاته.. إنه ذلك المريض الذى قرر أن يشكر طبيبه على مجهوده معه وسهره لرعايته حتى منّ الله عليه بالشفاء.. إلى هنا والأمر طبيعى تماماً.. بل ربما كان مطلوباً فى علاقة مهنية منضبطة بين المريض والطبيب الذى بذل من أجله ما يستطيع ليُشفى.
ربما لا يحمل كل المرضى الدماثة الكافية والأخلاق الرفيعة التى تجعلهم يشكرونك.. وربما لا ينتظر الطبيب ذلك الشكر فى معظم الأحيان، وإن كان يبدو سعيداً به فخوراً بنفسه دون أن يصرح بهذا علانية.. ولكنه يحدث فى النهاية.. ويحمل أثراً لا يستهان به فى نفس الطبيب المجتهد المطحون!
المشكلة أن المريض يحرص، بعد ذلك الشكر، على أن يؤكد لك أنك نوع مختلف من الأطباء.. وأن يصحب ذلك الامتنان وصلة سباب فى طبيب آخر يحمل من النقائص -فى نظر المريض- ما يجعل محاكمته وإعدامه فى ميدان عام مطلباً شعبياً.
نعم.. إنه يؤمن بأن القاعدة أن الأطباء هم مجموعة من الأوغاد يجمعون الأموال بجشع نهاراً ويقضون أوقاتهم ليلاً فى التخطيط لقتل مرضاهم جميعاً..!
هناك بعض الثوابت التى لن تتمكن من هدمها فى عقول الناس مهما حاولت.. فتكتفى بالصمت الذى يحمل الكثير من الصراخ دون صوت!
٢ - لم يكن الطبيب الشاب -الذى رفض ذكر اسمه بالمناسبة- يدرك، وهو يحمل ذلك الطفل المريض فى قسم جراحة المخ والأعصاب بمستشفى الحسين الجامعى على كتفه صبيحة يوم العيد ليحقق له أمنيته ويصلى العيد معه، أنه سيصبح حديث مواقع التواصل الاجتماعى خلال أيام العيد كلها.
لقد افترض أن الأمر أبسط بكثير من كل الضجة التى أثيرت، فهو يعرف الطفل جيداً من طول فترة علاجه، ولا أعتقد أن أحداً كان سيهمل أمنية لطفل مريض فى العيد.. خاصة إن كانت فى الإمكان!
الأمر ليس عجيباً على كل من عمل طبيباً مقيماً فى مستشفى حكومى.. إنها تلك العلاقة التى تتولد بين الطبيب ومرضاه المزمنين.. خاصة الذين يعرف جيداً أن علاجهم ليس بسيطاً.. وأن شفاءهم ليس بالهدف قريب المنال..!
ربما اكتشف المجتمع فجأة أن الطبيب قد أدى عملاً نبيلاً حقاً.. ولكن من قال إن الأطباء لا يفعلون ذلك كل يوم تقريباً؟!
أعرف أطباء يجمعون أموالاً من راتبهم الزهيد ليشتروا علاجاً لمرضاهم الذين يعرفون أنهم لن يتمكنوا من شرائه وإن قتلهم المرض.. وأعرف منهم من تبرع بدمه أكثر من مرة لمرضى لا يعرفون حتى اسمه الأول لمجرد محاولة إنقاذ حياتهم..!
لقد تعامل الجميع مع الموقف بما يليق به.. فشكره رئيس جامعة الأزهر.. ووزيرة الصحة بنفسها.. ولكن حجم الاحتفاء بالطبيب الشاب يؤكد أن الجميع يتعامل مع الأمر على أنه استثناء.. بينما الاستثناء هو ما يفعله من رسخ الصورة السيئة للأطباء فى نفوس الناس!!
٣ - يشتكى الأطباء من الاعتداء المتكرر عليهم فى استقبال الطوارئ.. ولا يعرفون أن الطرف الآخر يتعامل معهم على أنهم قتلة إلى أن يثبت العكس.
يشتكون من انخفاض الدخل وعدم تقدير المجتمع لسنوات دراستهم الطويلة بما يليق بها مادياً.. ولا يدركون أن البعض يتعامل معهم على أنهم لا يستحقون حتى ما يتحصلون عليه من مبالغ زهيدة.
أعرف أن البعض من الأطباء أنفسهم قد ساهم فى الوصول إلى ذلك الموقف بتصرفات غير مسئولة.. ولكنهم يظلون الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ولا ينفيها..!
ربما يحتاج الأمر الكثير من الجهد لتتغير تلك الصورة الذهنية السلبية التى رسمها البعض عن الأطباء.. وأكدها الإعلام بوازع الفرقعة والتسخين فى نفوس المجتمع.
يحتاج الأمر لتضافر جهود الآلة الإعلامية لوزارة الصحة مع نقابة الأطباء بشكل أكثر فاعلية.. ليتوقف الجميع عن التعجب من وجود ذلك «النبيل».. مع أنه طبيب!!