اليوم «30 أغسطس» تطل الذكرى الـ12 لوفاة الأديب العالمى نجيب محفوظ أظله الله بسحائب رحمته. عاش حياته يعمل بإخلاص دون أن ينتظر نتائج، آمن بمقولة: «على الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح»، فالمهم ألا يمر يوم دون أن ينتج شيئاً، كذلك كان نجيب محفوظ يقضى ساعات يومه صائغاً للسطور، أو قارئاً لسطور كتبها غيره. ظل على هذا النهج ما مكّنته الحياة، يغوص فى أعماق التجربة الإنسانية ليخرج منها بلآلئ الحكمة القادرة على عبور الزمان والمكان.
الحياة بالنسبة لنجيب محفوظ لم تكن أكثر من اكتشاف، وعندما امتد به العمر حتى ناهز التسعين، أصبح شغفه باكتشاف الموت يفوق توقه إلى المزيد من سنوات الحياة. جسّد «محفوظ» الإنسان الذى يظل يبحث عنه فى هذه الحياة عبر شخصية «عبدربه التائه» التى تقفز فوق سطور كتابه «أصداء السيرة الذاتية». عبدربه التائه كان محباً للحياة، ويجدها جديرة بالاكتشاف، ويأبى الهروب منها، حتى ولو قست، لكنه كان يرى فى الموت الحقيقة الراسخة: «الحياة فيض من الذكريات تصب فى بحر النسيان، أما الموت فهو الحقيقة الراسخة». سأله الراوى ما علامة الكفر، فأجاب: الضجر، وسأله: كيف تنتهى المحنة التى نعانيها، فأجاب: إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل. واستوقفه قائلاً: سمعت قوماً يأخذون عليك حبك الشديد للدنيا، فقال: حب الدنيا آية من آيات الشكر، ودليل ولع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر. وسأله: هل تحزن الحياة على أحد؟. فأجاب: نعم إذا كان من عشاقها المخلصين. وقال الشيخ عبدربه التائه: لا تلعنوا الدنيا، فهى تكاد ألا يكون لها شأن بما يقع فيها. وقال: إذا أحببت الدنيا بصدق، أحبتك الآخرة بجدارة. وقال: كما تحب تكون.
قطعة من دم ولحم هذا الوطن عاش نجيب محفوظ، كان خلاصة أكثر العناصر أصالة فى حياة الإنسان المصرى، ذلك الإنسان المحب للحياة والهائم بمتعها، الإنسان الذى لا تصرفه قسوتها عن الصبر عليها، ولا يمنعه التفكير فى الموت من الذوبان فى عشقها. عدوه اللدود هو الضجر، يحاول أن يحاربه بشتى الطرق وكل الحيل، يعرف كيف يخترع الأعياد حتى يصنع فرحته، ويجيد استخلاص البهجة من رحم المحنة. يحلم بالعدل وبمولد فتوة عادل يملأ الأرض عدلاً بعد أن غمرها الظلم، تديّنه بسيط، يحب الحياة لأنها من صنع ربه، ويؤمن بأن الآخرة خير وأبقى، وأن رحمة الله وسعت كل شىء، وأن الطاعة تنفع الإنسان والمعصية تضره، أما الخالق الأعظم فغنىٌ حميد.
نجح نجيب محفوظ فى تصوير عناصر الأصالة التى تشكل خريطة النفس المصرية إلى حد الروعة. تجد هذه الصورة لامعة فى شخصية حامد برهان فى رواية «الباقى من الزمن ساعة»، وفى شخصية عاشور الناجى فى الحكاية الأولى من حكايات «الحرافيش»، وفى شخصية أدهم فى أولى حكايات «أولاد حارتنا»، وفى شخصية «محتشمى زايد» فى «يوم قتل الزعيم». عاش نجيب محفوظ مخلصاً لما يؤمن به، فأحبه المصريون. وكانت تلك جائزته الكبرى كعبد من عباد الله الذين تاهوا فى جماليات الشخصية المصرية، وأجادوا فى رسمها.