الأسطر التالية كُتبت فور إعلان حركة المحافظين التى جاءت أشه بـ«جمع مذكر سالم»، عدا سيدة، مثلما جرى مع الحركة السابقة.
غير أن الكثيرين كانوا يطمحون إلى أن تحظى «حواء» بأكثر من مقعد، بصرف النظر عن نجاح أو إخفاق سابقتها، على الرغم من «مشقة المنصب»، غير أنه للمرة الأولى تحظى «مسيحية» بمنصب المحافظ الذى يماثل أرقى منصب إدارى وسياسى فى وطننا «رئيس الجمهورية»، بجميع مسئولياته وكل واجباته تجاه مواطنى المحافظة التى اختير لها لخدمتهم وبذل أقصى جهد لحل مشاكلهم وليس مشاكله هو شخصياً، وهو ما يؤكد أن مؤسسة الرئاسة التى تظلنا جميعاً لا تفرق بين مواطن وآخر بسبب النوع أو الديانة.
وإذا كان البعض يرى أن حركة المحافظين قد تأخر إعلانها بعض الوقت، فربما يرجع ذلك إلى أن شخوصها ومرشحيها ظلوا أمام أعين أجهزة الرقابة المختلفة لتتأكد من صحة الاختيار حتى آخر لحظة، لنتفادى ما جرى خلال الفترة القصيرة الماضية التى نقلت أخبار وصور بعض المحافظين من الصفحات الأولى للصحف لتستقر فى صفحات الحوادث بعد تورط بعضهم فى قضايا فساد..!
إذ لم يعد مشهد مسئولين فى قفص الاتهام مشهداً غريباً عن الشارع المصرى، خاصة بعد أن اعتاد الفساد اختيار فرسانه من كبار مسئولى الوزارات والمواقع التنفيذية، ولا يعترف بمجرد فساد موظف صغير يفتح مثلاً درج مكتبه انتظاراً ليلقى فيه من يقف أمامه قيمة «الشاى»، إذ إننى حتى وقت قريب كنت أظن -وكل الظن إثم وليس بعضه فى هذه الحالة- أن مظاهر الفساد لا تتعدى صغار كبار المسئولين فى بعض الجهات الحكومية الذين اعتادوا فتح أدراج مكاتبهم ليلقى فيها من يقفون أمامهم بقيمة الشاى، وهى تتراوح ما بين 50 جنيهاً و100 جنيه فى أفضل الحالات، لإنهاء طلب لم يجد مقدمه سوى سدادها حتى ينهى طلبه ويرحم نفسه من التردد على هذه الجهة التى حولته إلى ما يشبه «مسّاحة زجاج السيارة» فى انتقاله من مكتب إلى مكتب لينهى هذا العمل الذى ورطه فى هذه الرحلة الشاقة!
وإلى زمن قريب كنت أعتقد أن شبكة الفساد لا تضم داخلها سوى بعض صغار مسئولى المحليات، خاصة فى الأحياء، والذين تصل قيمة «الشاى» لهم عدة آلاف من الجنيهات نظير استخراج رخصة بناء أو هدم أو الترخيص بفتح «مقهى»، دون أن تضم كبارهم، إلا أن ما كشفت عنه جهود رجال الرقابة الإدارية أخيراً أكد أن تسونامى الفساد أطاح بمقاعد محافظين وكبار مسئولين فى الدولة لم يتطرق لنا أدنى شك فى فسادهم.. وأن أمواجه لم تسلم منها جهات عديدة ظلت مختفية عن أنظار الرقابة، ظناً من جانب هؤلاء المسئولين أنهم فى مأمن منها!
وإذا كان الرأى العام قد اعتاد، فى السابق، مشهد موظف فى وزارة أو رئيس حى أو مدينة تدفعه يد مخبر أو عسكرى إلى داخل سيارة الترحيلات أو إلى «تخشيبة» أى قسم للشرطة، بعد أن جرى ضبطه متلبساً، فإن هذا المشهد قد تبدل تماماً، ليصبح «المحافظ» ذاته بطلاً للواقعة. وبدلاً من المخبرين ظهر فى المشهد «ضباط أكفاء من الرقابة الإدارية»، وربما كان الوهم الذى سيطر على عقول هؤلاء المسئولين هو السبب فى انحرافهم وبالتالى سقوطهم، إذ ظنوا أنهم فى مأمن تام من عيون الرقابة، وأن أحداً لن يكشف فسادهم، دون أن يدركوا أن «صقور الرقابة» تتحين اللحظة المناسبة للانقضاض عليهم متلبسين سواء فى لحظة الاتفاق على قيمة الرشوة أو وهم يتلقونها، ليقفوا بعدها أمام النيابة فى بداية رحلة تلمع خلالها عدسات مصورى الصحف وهى تلتقط ملامحهم وهم خلف قضبان المحاكم، لينتهى المطاف بهم إلى عنبر فى أحد السجون..!
وربما أيضاً توهم هؤلاء السذج جميعاً، الذين طالتهم أيدى الرقابة الإدارية، أن ترديدهم شعارات بحتمية مطاردة الفساد والفاسدين وأنهم جميعاً لن يدّخروا جهداً فى محاربة هذا الوباء أمر كافٍ تماماً لإبعاد أعين الرقابة عنهم، ظناً منهم أن أحداً لن يتعرض لهم، سواء فى تنقلاتهم بالداخل وهم يتظاهرون بمتابعة الأعمال المكلفين بها وهم يرددون هذه الشعارات، أو وهم فى طريقهم إلى خارج البلاد إذا فكروا فى الهروب ومعهم حصيلة فسادهم..!
غاب عن هؤلاء الفاسدين أن مرحلة عدم محاكمة الفاسد أو محاسبة المخطئ أو المخادع قد فقدت صلاحيتها تماماً، بل إن «رب الفساد» نفسه الذى كان يبسط حمايته عليهم قد خضع للحساب والمحاكمة، ولم يعد أحد ممن يحسبون أنفسهم من المحظوظين وأصحاب النفوذ فى مأمن من الحساب والعقاب إذا ما انحرف وطاله «عفن الفساد»..!
ولأن التطور يُعد من سنن الحياة، فقد امتد أيضاً إلى الفساد ذاته، فقيمة «الرشوة» تباينت ما بين الملايين وما بين الآلاف أو حتى «وجبة عشاء وقميصين».. وحتى فروض الدين المقدسة «العمرة أو الحج» لم تسلم من أن تكون محوراً لتلك «الرشاوى اللعينة»، ولم يعلم هؤلاء الفاسدون أنه لا شىء يحول دون القبض عليهم أو حتى يؤجله، مثلما جرى مع محافظ المنوفية السابق الذى لم تمنع زيارة الرئيس لمحافظته -بعد نحو ساعة من ضبطه- من إلقاء القبض عليه.
ويبدو فى هذا المشهد أن الفاسدين من بين كبار المسئولين قد تعاهدوا، فيما بينهم وبدون تعاقد مكتوب، على أن يتلخص هدفهم من ممارسة مهامهم فى استغلال النفوذ والتربح وقبول الرشوة والإضرار العمدى بالأموال العامة التى هى فى حقيقتها أموال المواطنين.. كما لو كانوا يطبقون ما ورد فى «دليل الفاسد الذكى».
فى النهاية بقى شيئان: الأول: أننا جميعاً نتمنى أن تكون «أجهزة الرقابة» قد تأكدت فى تحرياتها من سلامة الذمة المالية للوافد من المحافظين الجدد، ومن عدم وجود أى ميول لديه للانحراف أو الفساد، حتى لا ينضم إلى قائمة من سقطوا فى «طبق عسل المنصب» بعد فترة ليست طويلة من شغلهم المنصب.. فعلى عكس قواعد القانون التى تقر بأن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته» فإن «المسئول مدان حتى تثبت براءته»، فلا يصح أن تحوم أى شبهة فساد حول من يتولى أى مسئولية أو منصب، فما بالك بمنصب يماثل منصب رئيس الجمهورية فى محافظته؟!
والثانى: فإن الرأى العام يأمل فى أن يكون اختيار شخوص الحكومة قد جاء لتنفيذ مهام وتكليفات محددة جرى إعدادها مسبقاً لتناسب المرحلة التى نخطو باتجاهها.. وأن يكون «فقه الأولويات» من ضمن أجندة عملهم.. ولك يا مصر السلامة دائماً.