خلافاً لكثير من المؤرخين كان «ابن إياس» صاحب كتاب «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» شاهد عيان على استيلاء السلطان العثمانى سليم شاه (سليم الأول) على مصر (1517) بعد أن سقطت الشام فى يديه (1516)، سجل بدقة كافة الأحداث التى تشهد على سياسة «تجريف البشر والحجر» التى انتهجها سليم شاه فى مصر، والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التى صحبت تربعه على عرش المحروسة لمدة 8 أشهر، ليترك الحكم بعدها لأكبر جاسوس تمكن من تجنيده فى القاهرة وهو «خاير بك» الجركسى، مكافأة له على خيانة السلطان قانصوه الغورى فى موقعة مرج دابق، والموالسة على السلطان طومان باى فى موقعة «الريدانية»، شهادة «ابن إياس» تقول إن كافة الأوضاع فى مصر شهدت انهياراً جسيماً بعد دخول العثمانيين، فتضعضعت أوضاعها السياسية، واهتزت مكانتها على مستوى الإقليم، وفقدت سيطرتها على كل من الشام والجزيرة العربية، أضف إلى ذلك تراجع العديد من الصناعات التى راجت واشتهرت فى عهد الدولة الجركسية، بسبب نقل أمهر الصناع والحرفيين إلى «اسطنبول» عاصمة الإمبراطورية العثمانية، ناهيك عما نشره الأتراك من أخلاقيات مذمومة على المستوى الاجتماعى.
الإنصاف يدعونا إلى التنبيه إلى أن «ابن إياس» كان معاصراً للعديد من الأحداث التى حكى عنها بعد دخول العثمانيين إلى مصر، فقد ولد عام 1448 وتوفى عام 1523، أى بعد سقوط مصر فى قبضة الأتراك بسبع سنوات، ولا أجدنى بحاجة إلى التذكير بمقولة «المعاصرة حجاب»، فمعاصرة الأحداث قد لا تمكن المؤرخ من رؤيتها وتقييمها على حقيقتها، خصوصاً عندما يكون جزءاً منها أو متأثراً بها على أقل تقدير، وعلينا أيضاً ألا ننسى أن «ابن إياس» كان مملوكاً ابن مملوك، ينتمى إلى طائفة الجراكسة التى حكمت مصر لعشرات السنين، لتسقط دولتها فيما بعد على يد سليم شاه، هذه الأمور لا بد من أخذها فى الاعتبار ونحن نقرأ شهادة «ابن إياس» على فترة استيلاء العثمانيين على مصر، مع عدم إغفال ما اشتهر به المؤرخ الكبير من حيدة وموضوعية فى سرد أحداث التاريخ.
بدأت القصة بسقوط مصر فى أيدى العثمانيين عام 1517 وإعدام السلطان طومان باى، جلس العثمانى «سليم شاه» على كرسى السلطنة فى مصر لمدة تقترب من 8 أشهر، ارتكب فيها كل ما يليق بمستعمر طامع فى خيرات بلد، وليس بحاكم مسلم يسوس أمر مسلمين مثله، شنق سلطان مصر على باب زويلة، ولم يرع شرف الخصومة، وأن «طومان باى» كان يدافع عن البلد الذى ولد ونشأ فيه، وورث حكمه عن أسلافه من المماليك الجراكسة، ولم يحترم أن المصريين مسلمون مثله، بل وأسبق من بنى جلدته دخولاً فى الإسلام ودفاعاً عنه، وأن سلطان مصر حينذاك كان حامى حمى الحرمين الشريفين فى مكة والمدينة، استحل دماء وأموال أولاد البلد والمماليك وحاشية الحكم الجركسى، ولم يرع حرمة، نظر سليم شاه إلى مصر كجائزة كبرى يحق له الحصول عليها بعد استيلائه على العراق والشام، واعتبرها مثل أكثر من فتحها من قبل «طُعمة» ينبغى أن يستحلب خيرها حتى آخر قطرة.