لم أكن أعلم أى شىء عن السيد «معصوم مرزوق» إلا من أيام قليلة قبل القبض عليه، وبما أن مصيره بيد القضاء الآن فأنا لا أحكم على أحد، ولكن ما حدث جعلنى أفكر فى النخبة المصرية أو من يطلقون عليهم كذلك، وإن كنت لا أعرف بالتحديد كيف أكون «نخبة».. فهذا الرجل كان فى القوات المسلحة وشارك فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر وحصل على وسام الشجاعة، ثم عمل سفيراً فى عدة دول، وهو أيضاً كاتب وروائى، ثم ظهر بعد ذلك فى حملة «حمدين صباحى» فى 2014، ثم مع خالد على فى 2017.. شاهدت له حديثاً على موقع يدعى «مدونة أكسجين مصر» وهو موقع معروف عنه معاداة الدولة وسب الرئيس.. استحملت ما يقول وهو ملىء بالمغالطات والهجوم الشديد بل والوقح على الدولة والرئيس.. لا يهم ما قاله ولكنى توقفت لحظات أفكر فى مشكلة «النخبة المصرية»، ومنذ زمن بعيد ومن بعد 1952 حيث وجدت نفسها مضطرة خوفاً من التعامل مع النظام ومسايرته إلا اليساريين الذين تم اعتقالهم فى 1958.. والغريب أنه فى عام 1956 تقاعس الحزب الشيوعى المصرى عن الانضمام للمقاومة الشعبية التى ضمت كل فئات المجتمع، بحجة أنهم «ضد النظام ويريدون سقوطه» وما زال هذا المبدأ فعالاً حتى يومنا هذا وهو أنهم ضد الدولة فى الأصل وليسوا ضد النظام.. والغريب أن اليساريين الذين اعتقلوا ورغم معاناتهم الطويلة فى معتقل الواحات فإنهم بعد خروجهم لهث أغلبهم لدخول الاتحاد الاشتراكى، بل والانضمام «للتنظيم الطليعى» ذات نفسه، وأذكر وأنا فى الجامعة أننى رفضت الانضمام لهذا التنظيم لأنى رفضت فكرة أن يكون هناك حزب اشتراكى «سرى» تحت رعاية عبدالناصر، ومنذ عام تقريباً حصلت على أسماء المشاهير المنضمين للتنظيم الطليعى وذهلت من أسماء الأدباء والصحفيين والنخبة حتى اسم ناظرة مدرستى الثانوية وجدته بين الأسماء.. وأيام الحركة الطلابية فى السبعينات كنا ضد النظام بسبب تأخر الحرب، وكنا نردد أن السادات باع سيناء لليهود والأمريكان، ولكن بعد أكتوبر ظهرت الحقيقة وانتهى الأمر وانشغل كل منا فى عمله وحياته، ولكن ظل البعض يعيش بفكرة «ضد الدولة» وليس ضد النظام حتى جاءت «كامب ديفيد» وصرخ هؤلاء خيانة!!! وما زال الكثيرون من النخبة يمجدون عبدالناصر ويتهمون السادات بالخيانة رغم أن الأول تسبب فى الهزيمة والثانى حرر الأرض وهذا هو فكر النخبة المعكوس وما زال.. وفى ثورة يناير لهثت النخب حتى العجائز منهم إلى ميدان التحرير لأخذ البركة، حتى نجوم عصر مبارك الذين أخذوا يكيلون التهم والسباب للعصر البائد رغم أنهم ينتمون لعصر مبارك والسادات وعبدالناصر، وأخذوا يمجدون فى شباب 6 أبريل والثوريين الاشتراكيين الذين أطلوا علينا فى كل الشاشات حتى قال أحدهم «اتركوا هذا الشباب يحكم».. ثم جاء الإخوان وصمت الكثيرون وسعى البعض لكسب ودهم والمشاركة معهم ولم نرهم على الشاشات يهاجمون الإخوان، بل ظهرت أيامها وجوه كثيرة لم تعتد الكلام واستطاعت أن تقود الرأى العام، ولقد شاهدت بنفسى حلقة لا تنسى كان فيها أحد الكتاب «رحمه الله» يقول عن «مرسى» إن «صوته هادئ وكله إيمان» مع تهليل السيد المذيع وسعادته وفى نفس الوقت مع إهانة وسباب السادات ويا سبحان الله.
والغريب أن أحد هؤلاء النخب وكان قريباً من نظام مبارك كان يدعونى أنا «بالفلول» لأنه كان هو «الثورجى»، بل وقام أحدهم بعمل فيلم دعائى لعبدالمنعم أبوالفتوح أيام الانتخابات التى أتت لنا بـ«مرسى».. وعندما بدأت بشاير يونيو ظهروا مرة أخرى ولهثوا خلف القوات المسلحة وقفزوا داخل الطائرات الهليوكوبتر وانضموا بشدة وعلت أصواتهم مرة أخرى. وبعد زوال الغمة، جاء السيسى فتكالبوا وغنوا وارتفعت الأصوات وشارك البعض منهم فى فعاليات مهمة، ولكن الغالبية العظمى خرجت صفر اليدين، فبدأ البعض يعود إلى ممارسة النشاط النخبوى العريق وهو المعارضة لمجرد المعارضة، وانضم البعض لمنظمات حقوقية وادعوا أن مصر بها اختفاء قسرى واعتقال سياسى وجرائم رأى، كما قالوا أيام مبارك وكنت أتساءل وأنا أكتب بكل حرية هل أكتب فى دولة أخرى؟ وجاءت انتخابات الفترة الثانية فكونوا جبهة معارضة وأخذوا «صورة سوا»، ولا أعرف حتى الآن ماذا كانوا يريدون، وبعد نتيجة الانتخابات عادوا لممارسة العمل، لأن الإيد البطالة نجسة، وبما أنه لا توجد جبهة تعمل بإخلاص ضد الدولة المصرية إلا جبهة الإخوان والأبريليين والثوريين الاشتراكيين أصحاب نظرية «هد الدولة واعمل غيرها على نظافة» فقد قررت النخبة الانضمام لهم وعجبى.
الغريب فى مسألة النخبة المصرية أنهم ومنذ سبعين عاماً تقريباً لا يفرقون بين النظام والدولة.. كل مواطن من حقه أن ينتقد النظام ويعترض على الحكومة والوزراء بل وعلى قرارات الرئيس شخصياً، ولكن ليس من الحق مطلقاً أن تعمل على هدم الدولة المصرية أو تحرض على إسقاط الرئيس الذى تولى بانتخابات ديمقراطية (كما يريدون) لمجرد أنهم يريدون البقاء فى الصورة.. وها هم يرون أن الانتخابات كانت مزورة وأن الشعب المصرى قال لا، ويدعون الناس للخروج إلى الميادين مرة أخرى رغم مرارة الفوضى التى عشناها فى يناير وما بعدها، ورغم أن مصر عاشت منذ يناير 2011 وحتى 2015 فى حالة سقوط مخيف، وعاشت لا دولة بالمعنى الدقيق.. ولكنهم يريدون الوجود خارج التويتر والفيس بوك وعلى صفحات الجرائد وفى الإعلام حتى لو كان فى وجودهم رغبة ملحة فى الرقص على جسد الوطن.. لا حول ولا قوة إلا بالله.