استدامة الشغب واللغط، والاعتياد عليهما، يصرفان الشاغبين عن الاشتغال بالمتاح وإحسان معرفته والاجتهاد فيه، إلى الامتثال للأقاويل والشائعات، والقعود عن الإلمام بأحوال بلدهم وحقيقة أمر القائمين عليها.. وهذه الغيبوبة التى يفرضها وينشرها توالى التسامع وعدم الأمانة فى النقل، سرعان ما تفرز بعض النماذج التى تنجرف إلى ممالأة ذوى النفوذ والمتنافسين على السلطة، وتنحو إلى الوساطة والسمسرة بين هؤلاء وبين أصحاب المصالح والحاجات من الجمهور العريض.. ومع الاعتياد والمثابرة والوقت، ينتقل هؤلاء الوسطاء والسماسرة إلى صفوف ذوى النفوذ أو إلى عداد ذوى السلطة.. وهكذا تزود هذه اللعبة الخبيثة نفسها باستمرار بعناصر شعبية الأصل تعطى ظهرها للبسطاء، وتنفض عن نفسها الفقر دون مبالاة بغيرها، وتتسع وتروج وساطتها وسمسراتها وتتخم بالمال فى تحقيق أغراضها غير القويمة، التى هجرت من أجلها ما كان ينبغى عليها أن تنهض به لتجفيف الفقر والفاقة، ورعاية الفقراء والمهمشين!!
وبهذا ومثله زالت وتزول الثقة فى التعامل السياسى والإدارى بين السلطات بعضها وبعض، وبينها وبين أفراد الشعب بعامة.. وعجزت وتعجز كل الضمانات الدستورية والقانونية عن وقف هذا البلاء أو الحدّ منه.. لأن مرجعه صار فى فساد وإفساد ذمم الخلق من فوق ومن تحت.. لدى الحكام ولدى ضعاف النفوس من المحكومين!!
طول الاعتياد!
ويبدو أننا لطول الاعتياد على استعمال المجاز لتسهيل أمور الجماعة وتبسيطها بتنا ننظر إلى الأنظمة من دساتير وقوانين ولوائح وقرارات وأوامر إدارية وأعراف وأصول وعادات واجبة الاتباع ننظر إليها على أنها تحكمنا وتملك رقابنا وتزيد أو تنقص من حقوقنا وواجباتنا وتلزمنا بالخضوع لها واتباعها ومراعاتها وإلّا تعرضنا للجزاء والعقاب.. ومع أنها فى ذاتها مجرد أفكار ومعانٍ خاليةٍ تماماً من حياة وإرادة وحركة الأحياء، وأن طاعتنا هى فى الواقع طاعة أو انصياع للآدميين الذين فرضوها أو فرضوا علينا طاعتها وامتثالها، وسهروا لأغراضهم! على نفاذها والتزام المحكومين باتباعها، حريصين على موالاة فرضها حتى لا تسقط بالإهمال قيمتها واستمرارية سريانها..
إن ما أسلفناه قد حدث فى الماضى مرات ومرات، وهو ما لا بد أن يحدث حين يشيع الفساد والإفساد فى الجماعة البشرية.. ويشيع معهما الضيق تلو الضيق، وتتوالى بلا انقطاع الأزمات الخانقة التى يكابدها الفقراء ولا تزعج أو تقلق الأغنياء والموسرين.. ومع تراكم الفقر والفاقة، وشيوع البؤس والتعاسة، تضطرب أحوال العامة، ويتضح لهم ما كانوا غافلين أو ساهين عنه من أنانية الحكام وعجزهم وفشلهم فى تحقيق الأمان المجتمعى وتوفير فرص العمل والظروف الصالحة لكسب الأرزاق وإنعاش أحوال البلاد والناس.
آثار تراكم الفاقة!
ومهما كان للنظم من هيبة وشوكة، فإن تراكم الفاقة وتفشى أسبابها، يؤدى حتماً إلى تراجع ثم زوال الهيبة التى عاشت فى ظلها الحكومات والنظم، وتتوالى أسباب إسقاط النظام البالى بعد أن صار وجوده كعدمه أو أسوأ من عدمه.. وتدل دروس التاريخ على أن هذه الانتقالات، مهما كانت أساليبها وصورها، تخالطها أغراض الراغبين فى التزعم والتسيد، وقد تتحول منافساتهم إلى صراع، ينسب كل منهم فيه إلى نفسه أنه الممثل للشعب المتحدث دون سواه! باسمه، المعنى بمقدراته ومصالحه.. ويظل هذا الصراع محتقناً حتى يتهيأ لبعض أطرافه فرض كلمتهم على الباقين وعلى المحكومين.. بالقوة أو بالخديعة أو بهما معاً.. والمحكومون من البسطاء والمهمشين متأرجحون بين الخوف والرجاء، والقلق والأمل، معزولون عما يجرى على يد المتنافسين المتصارعين على حكم بلدهم.. حتى تستقر الأحوال، وغالباً ما يتحول الإذعان القديم الذى كان، إلى إذعان جديد يلبس أثواباً متقلبة توافق مراد الأحوال المستجدة!!
واستكانة الجمهور للحاكم القوى، ظاهرة اجتماعية فى طبيعة البشر.. يتفادون أو يتصورون أنهم يتفادون بها إطالة عهد الفتن والقلاقل، ويتجنبون بها تعرض الأرواح والأرزاق للمخاطر.. وغالباً ما تكون هذه الاستكانة غير مشروطة، ولا تتوقف على تثبت أو اختيار أو مراقبة، وإنما تكتفى غالباً بالمظاهر والوعود والدعايات.. يدفع الخلق إلى الاستسلام لدغدغتها شدة شوقهم إلى استقرار الأحوال الذى لا بد منه لاستمرار الحياة وتيسير الحصول على الأرزاق التى عزت على الفقراء والمهمشين!!
علاقة تحتاج إلى بصيرة!
ليس فى ثقة الناس بحكامهم شىءٌ ملموس يمكن للجمهور مراقبته باستمرار كمراقبة كل فرد لعمله أو بيئته.. فما يمنحه الناس لحكامهم مجرد تصديق متوارث.. أو تصديق حادث ساد بفضل الاعتياد والمحاكاة.. لا ينقطع به تفرغ الأفراد الكلى للاهتمام بالعمل والرزق وبالأسرة والمصالح الشخصية التى تملأ أفق وعيهم ولا تكاد تترك مساحة فى عواطفهم وتفكيرهم لغير ذلك.
فإهمال المحكومين مراقبة حكامهم فى سلوكهم وتصرفاتهم مراقبة جادة.. هذا الإهمال ضعف بشرى يلازم كثيراً من الناس من قديم الزمان.. وهذا القدم لا يعفيهم من تبعاته.. كما لا يرفع هذه التبعات عن كاهلهم انتشار الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية ولا المواقع الإلكترونية وشبكات الإنترنت.. فهذه النوافذ الإخبارية والإعلامية لا تقوم بل هى غير معنية ببذل رقابة دائمة على أسلوب ومسالك ودروب وهنات الأداء الحكومى وتصرفات القائمين عليه.. لا سيّما أنها نوافذ محكومة باعتبارات عديدة قد تبتعد بها عن المصلحة العامة وما تقتضيه!
وبعيدٌ جداً عن الواقع أن يجعل أفراد الشعب هذه المراقبة جزءاً مهماً واجباً لا يتجزأ من تبعاتهم الشخصية، أو أن يبذل كل منهم قصارى ما باستطاعته للقيام بنصيبه فى هذه المراقبة الجادة بدلاً من الاكتفاء بالتندر فى مجالسهم بما يتسقطونه من أخبار أو يسمعونه عن سقطات الحكام وأتباعهم. فالجمهور يحمل حتماً جانباً ضخماً من تبعات هبوط مستوى الأداء العام.. إما نتيجة الإغفال أو التغافل وعدم المبالاة، وإما جبناً وخوفاً وطلباً للسلامة، وإما ضلوعاً ومساهمة فى الانحراف والتشجيع عليه أو الدعوة إليه أو التستر على سقطاته.. وهذا أفحش صور الانحراف فى تحمل التبعات وأبلغها ضرراً وإفقاراً للمجتمعات، لقابلية هذا الداء الوبيل الهائلة للسريان والانتشار وعسر إيقافه أو علاجه.
مواطنون لا رعايا!
على أن الشعوب لم تعد فى زماننا رعايا وأتباعاً لحكامها كما كانت فى الماضى الطويل الممتد فى الطول والقدم، ولم يعد حكامها كما كانوا رعاة قطعان لا تسألهم الحساب ولا يتصور ألا تسألهم إياه بمقالة إنهم ظل الله فى الأرض وإن الذى يملك سؤالهم هو الرب وحده. بل صارت الشعوب مصدر السلطات، والسند الوحيد لتولى أمانة الحكم والتشريع والإدارة.. وباتت إرادة الشعوب هى الإرادة التى تنحنى أمامها وتذعن جميع الإرادات.
وهذا الدور الخطير الذى صار أخطر الأدوار فى الحياة العامة، يستحيل أن يؤدى بجد وفاعلية إلّا إذا اقتنع كل أفراد الشعب بجديته، وبتوابع هذه الجدية التى تأبى تزوير الانتخابات والاستفتاءات والإغراق فى الاستثناءات. فإحساس أفراد الشعب بمسئوليتهم ومسئولية كل منهم الشخصية عن سلوك حكامهم وأتباعهم، يستوجب منهم مجموعاً وأفراداً أن يكونوا فى تمام اليقظة وأن يتابعوا رقابتهم فى وضوح وجد وجلاء، وأن يكونوا فعلاً لا قولاً مصدر السيادة، وأنه من غير المقبول أن يغتال أحد ولاية الحكم ويعبث ومن معه بالسلطات.. ولا سبيل للشعوب لإيقاف العبث بمصائرهم وتراكم أسباب الفقر والفاقة والتعاسة بين سوادهم، إلّا بأن يتيقظوا لمكانتهم وحقوقهم ويؤدوا واجبهم فى إيقاف اغتيال حقوقهم وفرض الفقر والهوان عليهم!
خلاصة واجبة
ربما بانت هنا أهمية ما أثرناه فى بداية هذه السطور، من وجوب الحرص على الالتزام والدقة فى تنفيذ الاتفاقات والعهود، سواء فى تعامل الشعب مع حكامه أو تعامل الحكام مع أفراد الشعب، أو تعامل الناس فيما بينهم.. فهذا الالتزام هو الركن الركين لنجاح التعامل فى كل باب، خاصاً كان أو عاماً، واتباعه هو بوصلة استقامة مسار المجتمعات والحكومات. على أن هذا لا سبيل لتحقيقه إلا بتعارف الكثيرين عليه وشعورهم به شعوراً قوياً حياً صادقاً، واقتناعهم بضرورة الحرص عليه.. وأن يدركوا أنهم إذا انهزموا فى القيام بواجبهم إزاء أنفسهم وأوطانهم، فلا رجاء فى الأخلاق وغيرها فى إنقاذهم من عثراتهم.. فنجاح الشعوب فى مهامها رهين بالأعمال لا بالكلام.