خبير الإصلاح المؤسسى: الإدارة الحكومية عندنا بالإجراءات وليس بالأهداف
الدكتور أحمد صقر عاشور
قال الدكتور أحمد صقر عاشور، أستاذ الإدارة فى جامعة الإسكندرية والخبير الدولى للحوكمة والإصلاح المؤسسى ومكافحة الفساد، إن بيئة العمل الفاسدة فى مصر نتاج عقود طويلة من إهمال الإصلاح والتطوير بمعناه الشامل. وأوضح أن الدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ المصرى أصدر كتاباً بعنوان «إصلاح الحكومة» فى العام 1943، طالب فيه بإصلاح مشاكل ما زلنا نعانى منها إلى اليوم. وأضاف «عاشور» فى حواره مع «الوطن» أن الإدارة عندنا فى الأجهزة والمؤسسات التابعة للدولة ما زالت تتم وفق اللوائح البيروقراطية العتيقة وليس وفق أهداف متفق عليها مسبقاً، والمدير الناجح هو «من يطبق القانون وخلاص» وهذا ما يفسر ظاهرة «المدير محدود القدرات»، وأكد أن الموظف فى مصر يعانى.. وإلى نص الحوار.
ما سبب انتشار ظاهرة المدير متوسط القدرات فى مؤسساتنا الحكومية؟
- الإدارة الحكومية عندنا تتم وفق اللوائح والإجراءات البيروقراطية العتيقة التى لا يتم تحديثها أو تجديدها أو تبسيطها، وليس وفقاً لأهداف ونتائج مخططة ومتفق عليها مسبقاً. والمدير الحكومى الناجح، بهذا المعنى، هو من يستطيع تشغيل وحدته التزاماً بهذه اللوائح والإجراءات. وهذه مسألة لا تحتاج لمدير متميز أو مبتكر (يكفى شخص متمرس أو قديم فى المكان ومحل ثقة رؤسائه). ولاحظ أن آليات الرقابة على عمل الأجهزة الحكومية تكرس نفس النهج. فمثلاً الجهاز المركزى للمحاسبات يركز بالدرجة الأولى على مدى الالتزام باللوائح والقواعد والإجراءات وليس على الأداء والنتائج والإنجازات المتحققة على الأرض. هذه المنظومة تتطلب قدرات وكفاءات متوسطة للعاملين والمديرين معاً. ولا تتطلب قدرات ودافعية عالية ولا شخصيات مبادرة مجددة.
د. أحمد صقر عاشور: بيئة العمل الفاسدة نتاج عقود من الإهمال
ولماذا لا تتم محاسبة المسئولين الحكوميين على نتائج ما حققوه؟
- لأنه لا توجد أهداف استراتيجية ولا تشغيلية أصلاً. كيف يُحاسب مسئول على تحقيق أهداف لم تطلب منه؟
ولماذا لا توجد أهداف؟
- كما قلت لك نحن ما زلنا فى مرحلة الإدارة باللوائح والإجراءات، ولم نتجاوزها بعد، مثل كل دول العالم المتقدم. فالإدارة بالأهداف والنتائج تتطلب خططاً استراتيجية وبرامج تقوم على النتائج فى كل وزارة أو مؤسسة تابعة للدولة، ثم تُترجم إلى خطط مرحلية وتشغيلية، ويُطلب من المسئولين عن المؤسسة فى كافة المستويات تنفيذ الخطة بعد توفير ما يلزم من موارد وإمكانات وكوادر، ثم يُحاسب هؤلاء المسئولون فى نهاية المدة عن الإنجازات المتحققة التى تقابل هذه الأهداف. فإن تحققت تتم إثابة ومكافأة هؤلاء المسئولين، وإن لم تتحقق يكون هناك حساب على التقصير إن كان يرجع إلى قصور فى الإدارة وفى التنفيذ. وهذا ليس اختراعاً، فتلك هى النظم والممارسات السائدة فى القطاع الخاص، وفى النظم الحكومية فى الدول المتقدمة فى مجال الإدارة.
المفارقة الغريبة هنا أن أى مسئول بداية من مستوى مدير عام ورئيس قطاع فى الدولة يتم اختياره بشكل تنافسى، وعليه حين يتقدم مع آخرين للمنصب، يقدم خطة أو مقترحات لتطوير الوحدة أو المجال الذى سوف يتولى إدارته. وتكون جودة هذه الخطة أو المقترحات التطويرية أحد المعايير الأساسية لاختياره، لكن بمجرد تعيينه تُوضع هذه الخطة على الرف ولا يسأل عنها بعد ذلك.
وما السبب؟
- غياب منظومة عامة فى المؤسسات الحكومية تتم فيها الإدارة بالأهداف والخطط الاستراتيجية كما قلت لك. هل تعرف مثلاً أن المؤسسات التعليمية المستقلة مثل الجامعات والكليات لا تحاسب على أدائها ومخرجاتها ونواتج عملها، وبالطبع لا يحاسب أى رئيس جامعة أو عميد كلية على أداء مؤسسته، لا أحد يسأله مثلاً ماذا أنجزت من ناحية تحسين خدمات التعليم المقدمة، أو كثافة وجودة ومستوى الرسائل والبحوث والصور الأخرى من الإنتاج العلمى والمعرفى بما فى ذلك براءات الاختراع والابتكارات التكنولوجية وكذلك الخدمات والإسهامات المجتمعية. وقد كان لى على المستوى الشخصى أكثر من تجربة مريرة فى هذا الشأن، فقد كنت مدير «مشروع استراتيجية جامعة الإسكندرية ٢٠٢٠» بين عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٨، وكانت جامعة الإسكندرية هى أول جامعة فى مصر تضع خطة استراتيجية، وأجرينا دراسات عميقة على أعلى مستوى، واشتملت على عشرات المشروعات التطويرية التى تغطى مجالات شتى. لكن للأسف كان الدرج مصير هذه الخطة لأن النظام العام، وليس فى الجامعات فقط، يفتقد لفكرة التخطيط الاستراتيجى والأهداف والمبادرات والمشروعات التطويرية المنبثقة عنها، كما يفتقد لمؤشرات الأداء المؤسسى والمحاسبة على خطط وأهداف محددة سلفاً.
«الخدمة المدنية» عودة للوراء ومحفز على الفساد.. ولم يأخذ شيئاً من تجارب العالم المتقدم التى تهدف فى الأساس إلى إسعاد المواطن
لكن المفروض أن الذى تتحدث عنه أصبح شيئاً من الماضى بعد تطبيق قانون الخدمة المدنية الذى وصفه بعض المسئولين بأنه ثورة إدارية؟
- كان المفروض أن يسبق القانون وضع نظام جديد للإدارة يكون موجهاً بالأهداف ومستنداً إلى النتائج. ولو وضع هذا النظام ما كان لهذا القانون أن يصدر على النحو الذى صدر عليه من تكريس للمركزية والجمود والإجرائية وإضعاف دور العاملين والقيادات الإدارية الحكومية فى تحقيق تطوير وتحسين حقيقى على الخدمات الحكومية. هذا القانون عودة للوراء ولا يمثل ثورة بأى صورة فى إدارة الموارد البشرية فى الحكومة ولا فى العمل الإدارى. وأخطر ما فيه أنه محفز على الفساد ولم يأخذ شيئاً من تجارب العالم. ويكفى أن تعرف أن هيكل الأجور فى هذا القانون أقل من الحد الأدنى للأجور الذى نصت عليه أحكام القضاء، فبداية المربوط للخريج الجامعى الجديد 880 جنيهاً وليس 1200 جنيه. والغريب أن بداية مربوط الوظائف المعاونة والحرفية (مثل عامل حاصل على شهادة الإعدادية) 845 جنيهاً، أى أن الفرق بينه وبين خريج الجامعة 35 جنيهاً فقط وهذا ليس عدلاً. وفى الحالتين هذه الأجور متواضعة جداً تجعل الموظف للأسف مضطراً أن يكمل دخله بوسائل مشروعة وغير مشروعة. الدور المحورى للعاملين بكل مستوياتهم تم تبنيه فى نظم الإدارة الحكومية الحديثة. فقد تحول العالم فى القطاع الحكومى منذ الثمانينات من نظام الإدارة بالإجراءات والقواعد للإدارة بالأهداف على نفس طريقة الشركات التجارية. وهو تحول يركز على إرضاء العميل أى المواطن، من خلال تبسيط مسار وإجراءات الحصول على الخدمة واختصار الوقت والتكلفة، والتوجه ليس فقط لإرضاء المواطن وإنما لإسعاده. ولا يتحقق كل هذا إلا من خلال كوادر بشرية عاملة كفؤة ومحفزة وراضية. وبالتالى يستحيل أن نتوقع تحقيق تميز فى الخدمات الحكومية إلا إذا كان هذا من خلال جهود بشرية متميزة، ولا يتحقق هذا إلا من خلال ثورة حقيقية فى نظم الإدارة الحكومية ومعايير وآليات الرقابة عليها وضمنها نظم إدارة الموارد البشرية أو ما يسمى بالخدمة المدنية.
بعض الباحثين يرون أن هذا الانحدار العام الذى انسحب على الجهاز الإدارى للدولة بدأ مع ثورة يوليو 1952، فهل هذا صحيح؟
- غير صحيح، فالثورة أصابت وأخطأت لكن مطالب إصلاح النظام المؤسسى خصوصاً فى الجهاز الإدارى للدولة موجودة منذ أربعينات القرن الماضى. وللدكتور إبراهيم مدكور، عضو مجلس الشيوخ ورئيس مجمع اللغة العربية مجمع الخالدين ذائع الصيت، كتاب بعنوان «إصلاح الحكومة» صدر عام 1943. وكان ينادى فيه بإصلاح مشاكل ما زلنا نعانى منها إلى اليوم. طبيعى أن حجم هذه المشاكل تضاعف وتفاقم منذ ذلك الحين، لأن أوضاع الموظف الحكومى كانت أقل سوءاً من الآن لكنها كانت موجودة. فى سنغافورة عندما بدأ «لى كوان يو» مؤسس نهضتها الحديثة، فى تطوير جهازها الحكومى، استعار نظام وهيكل الأجور من إحدى أفضل شركات البترول الأجنبية هناك، حتى يجعل الجهاز الإدارى للدولة جاذباً للكفاءات الحقيقية وقادراً على الحفاظ عليها. لكن للأسف فى مصر من بين كل منظومات العمل المختلفة، المنظومة التى تدير العنصر البشرى هى الأكثر تخلُّفا على الإطلاق، وأكبر مثال على ذلك قانون الخدمة المدنية ولائحته التنفيذية.
أشرفت على عشرات الخطط التطويرية وكان مصيرها «الدرج» وإبراهيم مدكور أول من طالب بالإصلاح الحكومى عام 1943
إذن ما نعانى منه اليوم هو نتيجة إهمال طويل للإصلاح بمعناه الشامل؟
- نعم، ما نعانى منه اليوم هو إهمال الإصلاح بكل جوانبه، الاقتصادى والسياسى والاجتماعى والثقافى والإدارى لسنوات طويلة. وهذه الأبعاد مثل الأوانى المستطرقة، فالمجتمع عبارة عن حركة تنظمها قوانين وتشريعات يسنها مجلس تشريعى ويطبقها قضاء وأى خلل فى أى من هذه الحلقات يؤثر فى الآخر. وهذا يأخذنا إلى السياسة فحين تغيب الحياة السياسية النشطة يعزف المواطن عن المشاركة وبالتالى يخرج من المعادلة. والنتيجة غياب برلمان ومجالس محلية ممثلة للشعب بشكل حقيقى. ويترتب على ذلك عدم قدرة هذه المجالس على القيام بدروها فى توجيه ومراقبة الحكومة والتأكد من أن أعمالها وأداءها يصب فى صالح المواطنين، كل المواطنين.