كأن الغلاء قدر المصريين.. وكأن الشكوى منه جزء من تاريخهم. لو أنك تأملت تاريخ هذا البلد وأهله ستجد أن الغلاء كان حاضراً فى كل وقت. وليس لمن يريد أن يعرف معنى المثل المصرى: «قاعد ينش»، سوى أن يعود إلى كتاب موفق الدين عبداللطيف البغدادى المعنون بـ«رحلة عبداللطيف البغدادى فى مصر»، ويحكى فيه ما شاهده فى «المحروسة» أواخر القرن السادس الهجرى، زمن الدولة الأيوبية. وقد تعاصرت الرحلة مع تراجع فيضان النيل، حيث «نش» -أى جف- النهر على حد تعبير «البغدادى»، وساد الغلاء وتفشَّى الوباء بين المصريين، وسادت المجاعة البلاد والعباد، وقد بلغت حداً من الرعب يفوق أى خيال سينمائى، حكى «البغدادى» بعضاً من مشاهدها البشعة، وقال فى ذلك: «كان الرجل يذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه وشيه، وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعو صديقه وأحب الناس إليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله، وصلى إمام مسجد الإسكندرية فى يوم على ما يزيد عن 700 جنازة».
وبعيداً عن المبالغات التى تظهر فى كتاب «البغدادى»، إذ لا يعقل أن يذبح الأب ولده الصغير وتساعده أمه فى شيه، فإن مسألة الغلاء كانت حاضرة فى مواضع عدة من تاريخ المصريين، فقبل نشأة الدولة الأيوبية كان الفاطميون هم حكام مصر، وقد انتهت تجربتهم بشدة اقتصادية أطلق عليها الشدة المستنصرية «نسبة إلى الخليفة الفاطمى المستنصر بالله» دامت لسبع سنوات. من شدة إلى شدة تدفقت حياة المصريين وكأن الغلاء قدر من أقدار حياتهم دأبوا على مواجهته بالشكوى. بالأمس كانت أحاديث الناس فى الشوارع والبيوت تتركز فى الأغلب على حالة الغلاء التى ضربت أسعار السلع، وعجزهم عن توفير ما يحتاجون، خصوصاً عندما يقترن الغلاء بحالة من حالات وقف الحال. اقرأ هذا المشهد الذى يصف فيه «الجبرتى» أحوال الغلاء فى مصر أواخر القرن السابع عشر (عام 1695): «بدأ الغلاء وبيع أردب القمح بـ600 نصف فضة، والشعير بـ300، والفول بـ450، والأرز بـ800 نصف من الفضة، أما العدس فلا يوجد، وحصلت شدة عظيمة بمصر وأقاليمها، وحضرت أهالى القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة، واشتد الكرب حتى أكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أهاليها، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق، ومن الأفران، ومن على رؤوس الخبازين».
الغلاء فى مصر يرتبط بأسباب عديدة، أشهرها شح النيل (قبل بناء السد العالى)، واحتكار السلع، وتعثر الأنشطة الاقتصادية بالدولة، وارتفاع تكاليف إنتاج السلع نتيجة ارتفاع أسعار النقل والتخزين والضرائب المفروضة، بالإضافة بالطبع إلى جشع التجار. لم يعتَد المصريون على مواجهة الغلاء بالاستغناء، وإذا اعتمد الناس هذه المعادلة فمعنى ذلك أنك تدعوهم إلى الموت جوعاً، لأن تجارب التاريخ تقول إن الغلاء عندما يحدث فى هذا البلد يضرب كل الأسعار، وأتصور أن لوم الناس على عدم الالتزام بفكرة المقاطعة أو الاستغناء عن بعض السلع التى ارتفع ثمنها ليس فى محله. الأجدى فى هذه الأحوال الدعوة إلى التدقيق فى مراقبة الأسواق، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى لدى الناس من أسباب للحياة.