عندما قامت ثورة يوليو 1952 كانت الساحة الصحفية فى مصر تزدحم بعشرات الصحف اليومية والأسبوعية، بعضها كان مملوكاً لأحزاب، وبعضها الآخر كان مملوكاً لرؤوس أموال فردية لأسر احترفت صناعة الصحف، مثل أُسَر «آل أمين» و«آل تقلا» و«آل زيدان» وغيرها. وبالطبع كانت هناك أبواب خلفية تعتمد عليها بعض الصحف المملوكة لأفراد فى التمويل. فى كل الأحوال تبنت هذه الصحف أفكار الثورة ودافعت عنها دفاعاً مريراً، بما فى ذلك الصحف ذات التوجهات الليبرالية المعروفة مثل جريدة «المصرى» المملوكة لأسرة «أبى الفتح».
الرئيس جمال عبدالناصر كان لديه تصور محدد حول موقع الصحف وغيرها من وسائل الإعلام على خريطة النظام السياسى الجديد الذى شرع فى تدشينه. ارتكز التصور على عدد من القواعد الأساسية، أولها قاعدة «المالك الوحيد الأوحد» وعدم الالتفات إلى أهمية التنوع فى التوجهات ووجهات النظر الناتجة عن تعدد الملاك، لذلك فقد سارع إلى اتخاذ قرار بإلغاء الأحزاب السياسية لتتوقف الصحف الصادرة عنها، وبعدها أصدر قانون تنظيم الصحافة 1960، وبمقتضاه أصبح الاتحاد الاشتراكى هو المالك الوحيد لكل الصحف التى تصدر فى مصر، ولم يعد يحق لرؤوس الأموال الفردية امتلاك صحف. وكانت النتيجة ضمور سوق الصحافة فى مصر وتراجع عدد الصحف بها، نتيجة سياسات الدمج فى الملكية، وعجز المالك الجديد «الاتحاد الاشتراكى» عن إدارة الصحف بشكل احترافى يعظم من تأثيرها على الجمهور، ويرى الكثير من الخبراء أن الاتحاد الاشتراكى تحول إلى «مالك غائب».
القاعدة الثانية لتصور عبدالناصر عن الصحافة تمثلت فى «توحيد الخطاب الصحفى والإعلامى». فالكل يتحدث فى نفس الموضوعات بنفس الطريقة والأسلوب، خصوصاً عندما يتصل الحديث بالشأنين السياسى والاقتصادى، أما الاختلاف فيمكن أن يظهر فى مساحات الفن والرياضة. ترتب على ذلك أن أصبح فى مقدور أى فرد من أفراد الجمهور أن يستغنى بوسيلة إعلامية عن أخرى، وأن يطمئن وهو يقرأ جريدة أن غيرها من الصحف لن تقدم جديداً يختلف عما يتصفحه. وقد عمق هذا الأمر من حالة التراجع فى أدوار الإعلام المصرى فى حياة الجمهور.
القاعدة الثالثة تتمثل فى «تحويل الإعلام إلى أداة للدفاع عن سياسات الدولة». وهى قاعدة منطقية، فمن المؤكد أن للإعلام دوراً فى الدفاع عن سياسات الدولة وتوجهاتها، مع أخذ أمر واحد فى الاعتبار، هو أن هناك فارقاً بين كلمة «تفسير» وكلمة «تبرير». تفسير سياسات الدولة وما تتبناه من مشروعات وتوجهات وتأثيراتها على الحاضر والمستقبل واجب مهنى أساسى من واجبات الصحافة، أما الانخراط فى تبرير كل قرار أو توجه للسلطة فيحوّل الصحيفة إلى «منشور سياسى دعائى»، وهو أمر لا يتسق بحال مع طبيعة الصحف ولا وظائفها، ويسهم هذا النمط من جديد فى محاصرة وتحجيم تأثير الإعلام على الجمهور.
ترتب على التصور الناصرى فى إدارة الإعلام عدد من النتائج الخطيرة، أولها ضرب مصداقية الإعلام، ولأن الإعلام لسان حال السياسة، فقد تآكل جسر الثقة بين الجمهور والمسئولين السياسيين، وثانيها توجه الجمهور إلى وسائل الإعلام الخارجية بحثاً عن معلومات أكثر دقة ومصداقية حول ما يحدث فى مصر. ومن عاش هذه الفترة يعلم الشعبية التى حظى بها راديو «بى بى سى»، بل حتى إذاعة «صوت إسرائيل»!
أما ثالث هذه النتائج وأخطرها فقد تمثل فى الجرح النفسى الخطير الذى أصاب الإنسان المصرى بعد نكسة 1967 بعد عملية الخداع الممنهج التى قامت بها أجهزة الإعلام لتُصور له الأحداث على غير حقيقتها.