من أروع المشاهد التى يشتمل عليها القرآن الكريم مشهد السخرية المتبادلة بين نبى الله نوح وقومه، والذى تحكيه الآية الكريمة التى تقول: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ». قوم نوح هم أول جيل بشرى يعبد الأصنام بعد الأجيال التى تربت على عقيدة التوحيد من لدن آدم عليه السلام. المسألة بدأت بفكرة تمجيد العظماء من الآباء والأجداد بصناعة تماثيل لهم، لكن هذه الفكرة البشرية العادية تلاشت بمرور الوقت لتحل محلها فكرة أخطر تمثلت فى عبادة هذه التماثيل، التى نحتوها بأيديهم، من دون الله. هال هذا الأمر واحداً منهم وهو نبى الله نوح عليه السلام فتوجَّه إلى تنبيههم إلى الفساد الذى أصاب عقيدتهم وخطورة الحال التى وصلوا إليها على مصيرهم فى الدنيا والآخرة.
950 عاماً كاملة عاشها نوح وهو يحذر وينبّه ويجتهد فى تصحيح ما اعوجَّ من أفكار قومه، لكن الكِبر احتل قلوبهم، وأعمى الغرور بصائرهم فاتهموه بالجهل والضلال وزيغ التفكير. حاول نوح مع الكبار والصغار من قومه، كان يلتقط الصغير ويحاول أن يربيه على عقيدة التوحيد ويجتهد فى تحرير عقله من فكرة الولع بالأصنام وعبادتها من دون الله، وما إن يكبر الصغير ويأوى إلى قومه حتى ينخرط معهم فى الضلال. ظل نوح على هذه الحال حتى أصابه البؤس فأوحى الله تعالى إليه بحقيقة الموقف: «وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».
لم يعد هناك حاجة للمزيد من الكلام، فما الجديد الذى يمكن أن يضيفه النبى المرسل إلى ما ردده على آذان قومه عبر ألف سنة إلا خمسين عاماً؟. وصلت الرسالة من السماء إلى الأرض، وتم تكليف نوح بصناعة سفينة النجاة. وبدأت الرحلة، أخذ نوح يجمع الأخشاب ويجتهد فى تنفيذ الأمر السماوى. تعجب قومه من حالة السكات التى انتابته وهو الذى دأب على دعوتهم ليل نهار، وتعجبوا أكثر لما يفعله، والسفينة التى بدأ فى تشييدها. كان كبار القوم يمرون عليه فيسألونه ساخرين: «هل تركت وظيفة النبى وعملت نجاراً؟» ثم يستغرقون فى الضحك. وكان نوح يرد عليهم بهذا الرد: «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ».
وحده نوح والذين آمنوا معه كانوا يعلمون بأمر الطوفان القادم الذى سيأكل البشر والحجر والأخضر واليابس، تلك المعرفة كانت تمنحهم إحساساً بالاطمئنان بأن المستقبل لهم وأنهم سيضحكون طويلاً فيما بعد على هؤلاء الساخرين منهم. أتم نوح عمله وأصبحت السفينة جاهزة، وازدادت سخرية قومه منه وسألوه هل ستبحر بالسفينة هنا على البر؟، لكن الإجابة جاءتهم سريعاً حين انفجرت الأرض بالماء وانسالت المياه من السماء حتى استحالت الحياة إلى بحر كبير غرق فيه الذين كانوا يسخرون بالأمس، ولم ينجُ من الطوفان سوى الذى آووا إلى السفينة.. إنه مشهد يستحق التأمل.