فتنة الحج إلى القدس واحدة من أقدم الفتن الصريحة التى وقعت بين مسلمى وأقباط مصر. وهى تشهد على حالة الضعف التى تعترى الشخص التنويرى عند مواجهة العوام، بما يتسكع فى رؤوسهم من أفكار متشددة لا أصل لها فى الدين. حدثت وقائع هذه الفتنة عام 1162 هـ (1784 م). فى ذلك الوقت كان الشاعر والفقيه عبدالله الشرقاوى هو شيخ الجامع الأزهر، وكان رجلاً مستنيراً، لا يتأثر فى فتاواه بالشعبوية، قدر ما يتحرك بوعيه وفهمه الصحيح للإسلام. كان «الشبراوى» حينذاك كبير المسلمين، فى حين كان «نوروز» كاتب رضوان كتخدا كبير القبط. رغب الأقباط فى ذلك التاريخ فى الحج إلى بيت المقدس، فذهبوا إلى كبيرهم، وطلبوا منه أخذ الإذن لهم من شيخ الإسلام. تخيل أن ممارسة هذه الشعيرة الدينية فى ذلك الوقت كانت تتطلب استئذاناً!. التقى «نوروز» كبير القبط، الشيخ عبدالله الشرقاوى، وكلَّمه فى الأمر، وقدم له هدية وألف دينار، فكتب الشيخ فتوى وجواباً ملخصه أن «أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم»، فلما تم للأقباط ما أرادوا شرعوا فى قضاء أشغالهم وتشهيل أغراضهم وخرجوا فى هيئة وأبّهة وأحمال وتختروانات فيها نساؤهم وأولادهم ومعهم طبول وزمور، كما يصف «الجبرتى».
كان موكب الحج عظيماً وكبيراً، يسير فى حراسة مجموعة من العربان الذين استأجرهم القبط لخفارتهم وحمايتهم من أى هجوم، ودفعوا لهم مقابل ذلك أموالاً وكساوى. ومع مسير الموكب فى البلاد شاع أمره بين المسلمين فاستنكروا الأمر، وأخذوا يعدون العدة لمواجهته ورده من حيث أتى. بينما كانت هذه الأحداث تتفاعل فى الشارع وقع حوار لافت بين الشيخ البكرى والشيخ عبدالله الشبراوى:
- الشيخ البكرى (مبكِّتاً): أى شىء هذا الحال يا شيخ الإسلام؟.. كيف ترضى وتفتى النصارى وتأذن لهم بهذه الأفعال لكونهم أرشوك وهادوك؟.
- الشيخ الشبراوى (منكراً): لم يحدث هذا.
- الشيخ البكرى: بل أرشوك بألف دينار وهدية.. وعلى هذا تصير لهم سُنة ويخرجون فى العام القابل بأزيد من ذلك ويصنعون لهم مَحملاً ويقال حج النصارى وحج المسلمين وتصير سُنة عليك وزرها إلى يوم القيامة.
لم يتحمل الشيخ عبدالله الشبراوى الكلام، فتدفق الدم إلى رأسه، ونسى استنارته، وتناسى ما ينص عليه الإسلام من تسامح ودفاعه عن حرية الاعتقاد وحق أصحاب الأديان فى ممارسة طقوس عباداتهم بشكل آمن، نسى كل ذلك، كما نسى فتواه: «أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم»، ودعا العوام بنفسه لمهاجمة موكب الحج ونهب الأقباط القاصدين لبيت المقدس، وحرّض مجاورى الأزهر على الخروج مع الأهالى، فاجتمعوا على الحجيج ورجموهم وضربوهم بالعصىّ ونهبوا ما معهم وجرّسوهم. وينهى «الجبرتى» القصة بفقرة تحمل دلالة واضحة على الشماتة يقول فيها: «وانعكس النصارى فى هذه الحادثة عكسة بليغة وراحت عليهم وذهب ما صرفوه وأنفقوه فى الهباء».
ثقافة العوام كثيراً ما تغلب أفكار التنويريين. والسر فى ذلك أمران، الأول محدودية قدرة التنويرى على مواجهة المجموع وخضوعه فى لحظة تعسة للثقافة الشعبوية، والثانى أن أية مبارزة بين الغوغائية والعقلانية غالباً ما تخرج منها الغوغائية منتصرة.